فصل: ذكر خبر المثنى بن حارثة وأبي عبيد بن مسعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم **


 ذكر أفعاله الجميلة في الإسلام وفضائله ونفقته رضي اللّه عنه

قد بينا أنه أول من أسلم وشهد بدرًا والمشاهد كلها‏.‏

أخبرنا المحمدان ابن ناصر وابن عبد الباقي قالا‏:‏ أخبرنا أحمد بن أحمد حدَثنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن حدَثنا بشر بن موسى حدثنا الحميدي حدثنا أتى الصريخ إلى أبي رضي الله عنه فقيل له‏:‏ أدرك صاحبك فخرج من عندنا وإن له غدائر فدخل المسجد وهو يقول‏:‏ ويلكم أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم قال‏:‏ فلهوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على أبي بكر فرجع إلينا أبو بكر فجعل لا يمير شيئًا من غدائره إلا جاء معه وهو يقول‏:‏ تباركت يا ذا سمعت الزهري يقول أخبرنا أبو القاسم الحريري أخبرنا أبو إسحاق البرمكي أخبرنا ابن حيوية أخبرنا أبو محمد المدائني حدَّثنا أبو بكر بن أبي النضر حدَّثنا شبابة قال‏:‏ حدًثني أبو العطوف قال سمعت الزهري يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت‏:‏ ‏"‏ هل قلت في أبي بكر شيئًا ‏"‏ فقال‏:‏ نعم فقال‏:‏ قل وأنا أسمع ‏"‏ فقال‏:‏ وثاني اثنين في الغار المنيف وَقَدْ طَافَ العَدُوُّ بِهِ إِذْ صَعَدَ الجَبَلاَ وكان ردف رسول الله قَدْ عَلِموا مِنَ البَرِيَّةِ لَمْ يعدل بِهِ رَجُلا فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال‏:‏ ‏"‏ صدقت يا حسان هو كما قلت ‏"‏‏.‏

أخبرنا المحمدان أن ناصر وابن عبد الباقي قالا‏:‏ أخبرنا أحمد بن أحمد أخبرنا أحمد بن عبد الله الحافظ حدَّثنا سليمان بن أحمد حدَثنا علي بن عبد العزيز حدثنا عن هشام بن سعد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق وقد وافق ذلك مالأ عندي فقلت‏:‏ اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا قال‏:‏ ثم جئت بنصف مالي قال‏:‏ فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ما أبقيت لأهلك‏.‏

‏"‏ قلت‏:‏ مثله‏.‏

وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ما أبقيت لأهلك ‏"‏ قال‏:‏ أبقيت لهم الله ورسوله فقلتَ‏:‏ لا أسابقك إلى شيء أبدًا‏.‏

أخبرنا ابن الحصين أخبرنا ابن المذهب أخبرنا أحمد بن جعفر حدًثنا عبد الله بن أحمد قال‏:‏ حدَّثني أبي حدَّثنا أبو معاوية حدَثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر ‏"‏ فبكى أبو بكر وقال‏:‏ وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول اللّه‏.‏

أخبرنا هبة الله بن الحصين قال‏:‏ أخبرنا الحسن بن علي قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر بن حمدان بن مالك قال‏:‏ حدَّثنا عبد الله بن أحمد قال‏:‏ حدَّثني أبي قال‏:‏ حدَثنا فليح عن سالم أبي النضر عن يسر بن سعيدأ عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب فقال‏:‏ ‏"‏ إن من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذًا خليلًا غير ربي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبقى باب في المسجد إلا سد إلا باب أبي بكر ‏"‏‏.‏

أخرجاه في الصحيحين‏.‏

وفي إفراد البخاري من حديث أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أمر جرى بين أبي بكر وعمر‏:‏ إن الله بعثني إليكم فقلتم كذب وقال أبو بكر‏:‏ صدقت وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركَو لي صاحبي مرتين ‏"‏‏.‏

ومن أعظم فضائل أبي بكر رضي الله عنه فتواه في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا عبد الأول بن عيسى أخبرنا الداودي أخبرنا ابن أعين حدَّثنا الفربري حدَّثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن يحيى بن سعيد عن ابن أفلح عن أبي محمد مولى أبي قتادة عن أبي قتادة قال‏:‏ خرجنا مع رسول صلى الله عليه وسلم عام حنين فلما التقينا كانت للمسلمين جولة فرأيت رجلًا من المشركين علا رجلًا فاستدرت له حتى أتيته من ورائه حتى ضربته بالسيف على حبل عاتقة فأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ثم أدركه الموت فأرسلني فلحقت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقلت‏:‏ ما بال الناس قال أمر الله ثم إن الناس رجعوا وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ من قتل قتيلًا له عليه بينة فله سلبه فقمت فقلت‏:‏ من يشهد لي ثم جلست ثم قال‏:‏ من قتل قتيلًا له عليه بينة فله سلبه‏.‏

فقمت فقلت‏:‏ من يشهد لي ثم جلست ثم قال الثالثة مثله فقمت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما لك يا أبا قتادة فاقتصصت عليه القصة فقال رجل‏:‏ صديق يا رسول الله وسلبه عندي فأرفضه عني فقال أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ لا ها الله إذًا لا تعمد إلي من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله نعطيك سلبه فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ صدق فأعطه ‏"‏ أخبرنا ابن الحصين قال‏:‏ أخبرنا المذهب قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن جعفر قال‏:‏ حدَثنا عبد الله بن أحمد قال‏:‏ حدَثني أبي قال‏:‏ حدَّثنا عفان حدَّثنا حماد بن زيد قال‏:‏ حدَثنا أبوحازم عن سهل بن سعد قال‏:‏ كان قتال بين بني عمرو بن عوف فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم بعد الظهر ليصلح بينهم فقال‏:‏ ‏"‏ يا بلال إن حضرت الصلاة ولم آت فمر أبا بكر فليصل بالناس قال‏:‏ فلما حضرت العصر أقام بلال الصلاة ثم أمر أبا بكر فتقدم بهم وجاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعدما دخل أبو بكر في الصلاة فلما رأوه صفحوا وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشق الناس حتى قام خلف أبي بكر قال‏:‏ وكان أبو بكر إذا دخل في الصلاة لم يلتفت فلما رأى التصفيح لا يمسك عنه التفت فرأى النبي صلى الله عليه وسلم خلفه فأومأ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده أن امضه فقام أبو بكر كهيئته فحمد الله على ذلك ثم مشى القهقرى قال‏.‏

فتقدم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس فلما قضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلاته قال‏:‏ يا أبا بكر ما منعك إذ أومأت إليك أن لا تكون مضيت قال‏:‏ فقال أبو بكر‏:‏ لم يكن لابن أبي قحافة أن يؤم رسول اللّه فقال للناس‏:‏ ‏"‏ إذا نابكم في أخرجاه في الصحيحين‏.‏

أخبرنا أبو القاسم الجريري أخبرنا أبو طالب العشري أخبرنا أبو الحسين بن شمعون حدَثنا عثمان بن أحمد بن يزيد حدَّثنا محمد بن موسى القرشي حدثنا العلاء بن عمرو الشيباني حدَثنا أبو إسحاق الفزاري حدَّثنا سفيان بن سعيد عن آدم بن علي عن ابن عمر قال‏:‏ كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر رضي اللّه عنه وعليه عباءة قد خلها في صدره بخلال فنزل عليه جبريل فقال‏:‏ يا محمد ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال فقال‏:‏ ‏"‏ يا جبريل أنفق ماله عليّ قبل الفتح ‏"‏ فقال‏:‏ إن اللّه عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول لك‏:‏ قل له‏:‏ أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يا أبا بكر إن اللهّ يقرأ عليك السلام ويقول لك‏:‏ أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط فقال أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ أأسخط عن ربي أنا عن ربي راض أنا عن ربي راض أنا عن ربي راض‏.‏

أخبرنا محمد بن عبد الباقي أخبرنا الجوهري أخبرنا ابن حيوية أخبرنا أحمد بن معروف حدَّثنا الحسين بن الفهم حدَثنا محمد بن سعد قال‏:‏ أخبرنا محمد بن عمر قال‏:‏ حدَّثني أسامة بن زيد بن أسلم عن أبيه قال‏:‏ كان أبو بكر رضي الله عنه معروفًا بالتجارة ولقد بُعث النبي صلى الله عليه وسلم عنده أربعون ألف درهم فكان يعتق منها ويقوي المسلمين حتى قدم المدينة بخمسة آلاف درهم ثم كان يفعل فيها ما كان يفعل بمكة‏.‏

قال علماء السير‏:‏ لم يفته مشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر يوم بدر ويوم أحد ودفع إليه رايته العظمى يوم تبوك واشترى بلالًا فأعتقه وأول من جمع القرآن وأسلم على يده من العشرة خمسة‏:‏ عثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن ولم يشرب مسكرا لا في جاهلية ولا إسلام‏.‏

 ذكر ورعه رضي اللّه عنه

أخبرنا المحمدان ابن ناصر وابن عبد الباقي قالا‏:‏ أخبرنا حمد بن أحمد بن عبد الله الأصفهاني حدثنا أبو عمرو بن حمدان حدًثنا الحسن بن سفيان حدَثنا يعقوب بن سفيان قال‏:‏ حدثنا عمرو بن منصور البصري حدَثنا عبد الواحد بن زيد بن أسلم الكوفي عن مرة الطيب عن زيد بن أرقم قال‏:‏ كان لأبي بكر الصديق مملوك يغل عليه فأتاه ليلة بطعام فتناول منه لقمة فقال له المملوك‏:‏ ما لك لا تسألني كل ليلة ولم تسألني الليلة قال‏:‏ حملني على ذلك الجوع من أين جئت بهذا‏.‏

قال‏:‏ مررت بقوم في الجاهلية فرقيت لهم فوعدوني فلما كان اليوم مررت بهم فإذا عرس لهم فاعطوني فقال‏:‏ إن لك كدت أن تهلكني فأدخل يده في حلقه فجعل يتقيأ وجعلت لا تخرج فقيل له‏:‏ إن هذه لا تخرج إلا بالماء فدعا من ماء فجعل يشرب ويتقيأ حتى رمى بها فقيل له‏:‏ يرحمك اللَّه كل هذا من أجل هذه اللقمة قال‏:‏ لو لا تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به ‏"‏‏.‏

فخشيتّ أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة‏.‏

روى المؤلف باسناده عن إبراهيم النخلي قال‏:‏ كان أبو بكر يسمى الأواهَ لرأفته ورحمته‏.‏

 ذكر خوفه وزهده رضي اللّه عنه

أخبرنا محمد بن أبي طاهر أخبرنا الجوهريِ أخبرنا ابن حيوية أخبرنا ابن معروف حدَّثنا الحسين بن الفهم حدَثنا محمد بن سعد أخبرنا سعيد بن محمد الثقفي عن كثير النواء عن أبي سريحة قال‏:‏ سمعت عليًا رضي الله عنه يقول على المنبر‏:‏ ألا إن أبا بكر أواه منيب القلب‏.‏

قال محمد بن سعد‏:‏ وأخبرنا عفان حدُّثنا عبد الواحد بن زياد قال‏:‏ حدثنا الحسن بن عبد الله قال‏:‏ حدثنا إبراهيم النخعي قال‏:‏ كان أبو بكر يسمى الأواه لرأفته ورحمته‏.‏

وقال قيس‏:‏ رأيت أبا بكر رضي الله عنه آخذأ بطرف لسانه وهو يقول‏:‏ هذا أوردني الموارد‏.‏

قال الحسن‏:‏ قال أبو بكر الصديق‏:‏ ليتنّي كنت شجرة تعضد ثم تؤكل‏.‏

وقال أبو عمران الجوني‏:‏ قال أبو بكر‏:‏ لوددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن‏.‏

أخبرنا عبد الأول قال‏:‏ أخبرنا الداودي قال‏:‏ أخبرنا ابن أعين قال‏:‏ حدثنا الفربري‏:‏ قال حدثنا البخاري قال‏:‏ حدَثنا ابن أبي كثير قال‏:‏ حدُّثنا سفيان قال حدثنا جامع بن أبي راشد قال‏:‏ حدثنا أبو يعلى عن محمد بن الحنفيةّ قال‏:‏ قلت أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر قلت ثم من فيقول عثمان فقلت‏:‏ ثم أنت قال‏:‏ ما أنا إلا رجل من المسلمين‏.‏

أخبرنا ابن الحصين قال‏:‏ أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد بن غيلان قال‏:‏ حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي أخبرنا أبو بكر بن أبي الدنيا أخبرنا خالد بن خداش أخبرنا حماد بن زيد عن يحيى بن عتيق عن الحسن بن أبي الحسن أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال‏:‏ وددت أني في الجنة حيث أرى أبا بكر رضي اللّه عنه‏.‏

 ذكر بيعة أبي بكر رضي اللّه عنه

ذكر الواقدي عن أشياخه‏:‏ أن أبا بكر رضي الله عنه بويع يوم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ بويع أبو بكر رضي الله عنه يوم الثلاثاء من الغد الذي قبض فيه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في سقيفة بني ساعدة‏.‏

أخبرنا ابن الحصين قال‏:‏ أخبرنا ابن المذهب قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن جعفر قال‏:‏ حدَثنا عبد اللّه بن أحمد حدَثني أبي قال‏:‏ حدَثنا إسحاق بن عيسى الطباع قال‏:‏ حدَثنا مالك بن أنس قال‏:‏ حدَّثني ابن شهاب عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس قال‏:‏ قال عمر بن الخطاب كان من خبرنا حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عليًا والزبير ومن كان معهما تخلفوا في بيت فاطمة رضي اللّه عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخلفت عن الأنصار بأجمعهم في سقيفة بني ساعدة واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر رضي الله عنه فقلت له‏:‏ يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا رجلان صالحان فذكرا لنا الذي صنع القوم وقالا‏:‏ أين تريدون يا معشر المهاجرين فقلنا نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار فقالا‏:‏ لا عليكم لا تقربوهم واقضوا أمركم يا معشر المهاجرين‏.‏

فقلت‏:‏ والله لنأتينهم‏.‏

فانطلقنا حتى جئناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا هم مجتمعون وإذا بين ظهرانيهم رجل مُزمَل فقلت‏:‏ من هذا فقالوا‏:‏ سعد بن عبادة‏.‏

فقلت‏:‏ ما له وجع‏.‏

فلما جلسنا قام خطيبهم فأثنى على الله عز وجل بما هو أهله وقال‏:‏ أما فنحن أنصار الله عز وجل وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا وقد دفت دافة منكم تريدون أن تخزِلونا من أصلنا وتحصنُونا من الأمر‏.‏

فلما سكت أردت أن أتكلم وكنت قد زورْت مقالة أعجبتني أردت أن أقولها بين يدي أبي بكر رضي الله عنه وقد كنت أداري منه بعض الحد وهو كان أحلم مني وأوقر فقال أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ على رسلك‏.‏

فكرهت أن أغضبه وكان أحلم مني وأوقر والله ما ترك كلمة أعجبتني في تزويري إلا قالها فيِ بديهته وأفضل حتى سكت‏:‏ قال‏:‏ أما بعد فما ذكرتم من خير فأنتم له أهلِ ولم تعرف العرب هذا الأمر إلا من قريش هم أوسط العرب نسبًا وداراَ وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أيهما شئتم وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح فلم أكره مما قال غيرها وكان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم أبو بكر رضي اللّه عنه إلا أن تغر نفسي عند الموت فقال قائل من الأنصار‏:‏ أنا جذيلها المحكك وعُذَيْقها المرخب منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش قال فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى خشيت الاختلاف فقلت‏:‏ ابسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعه الأنصار‏.‏

أخبرنا محمد بن أبي طاهر قال‏:‏ أخبرنا الجوهري قال‏:‏ أخبرنا ابن حيوية قال‏:‏ أخبرنا ابن معروف قال‏:‏ أخبرنا ابن الفهم قال‏:‏ أخبرنا محمد بن سعد قال‏:‏ أخبرنا يزيد بن هارون قال‏:‏ أخبرنا العوام عن إبراهيم التيمي قال‏:‏ لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى عمر أبا عبيدة بن الجراح فقال‏:‏ ابسط يدك فلأبايعك فإنك أمين هذه الأمة على لسان محمد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيدة لعمر‏:‏ ما رأت لك فَهة قبلها منذ أسلمت أتبايعني وفيكم الصديق وثاني اثنين‏.‏

قال ابن سعد‏:‏ أخبرنا وكيع عن أبي بكر الهذلي عن الحسن قال‏:‏ قال علي رضي الله عنه لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي عليه السلام قد قدم أبا بكر في الصلاة فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فقدمنا أبا بكر‏.‏

قال ابن سعد‏:‏ أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال‏:‏ حدَثنا ابن عون عن محمد‏.‏

أن أبا بكر قال لعمر‏:‏ ابسط يدك نبايع لك فقال له عمر‏:‏ أنت أفضل مني قال له أبو بكر‏:‏ أنت أقوى مني فقال له عمر‏:‏ إن قوتي بك مع فضلك‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ بايع أبا بكر المهاجرون والأنصار كلهم غير سعد بن عبادة‏.‏

أخبرنا محمد بن الحسين وإسماعيل بن أحمد أخبرنا ابن النقور أخبرنا ابن المخلص أخبرنا أحمد بن عبد الله بن سيف حدَثنا السرير بن يحيى حدَثنا شعيب بن إبراهيم حدَّثنا سيف بن عمر عن ميسر عن جابر قال‏:‏ قال سعد بن عبادة يومئذ لأبي بكر‏:‏ إنكم يا معشر المهاجرين حسدتموني على الإمارة وإنك وقوميِ أجبرتموني على البيعة فقال‏:‏ أما لو أجبرناك على الفرقة فصرت إلى الجماعة كنت في سعة ولكنا أجبرناك على الجماعة فلا إقالة لها لأن نزعت يدًا من طاعة أو فرقت جماعة لأضربن الذي فيه عيناك‏.‏

روى سيف عن ثابت بن معاذ الزيات عن الزهري عن يزيد بن معن السلمي قال‏:‏ قدم سعد بن عبادة يوم السقيفة فبايع فقال له أبو بكر‏:‏ لئن اجتمع إليك مثلها رجلان لأقتلنك‏.‏

وحدثنا سيف عن يحيى بن سعد عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ أول من بايع أبا بكر المهاجرون إلى الظهر ثم الأنصار في دورهم إلى العصر ثم رجع إلى المسجد‏.‏

فبايعه البقايا وجاء أهل الجرف فيما بين ذلك إلى الصباح‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ بايع أبا بكر المهاجرون والأنصار كلهم غير سعد بن عبادة لأن الأنصار كانت قد أرادت أن تجعل البيعة له فقال له عمر‏:‏ لا تدعه حتى يبايع فقال له بشير بن سعد أبو النعمان وكان أول من صفق على يدي أبي بكر‏:‏ إنه قد لج وليس بمبايعكم أو يقتل وليس بمقتول حتى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته فإن تركه بضاركم إنما هو واحد فقبل أبو بكر نصيحة بشير ومشورته وكف عن سعد فكان سعد لا يصلي بصلاتهم ولا يصوم بصيامهم وإذا حجِ لم يفض بافاضتهمِ فلم يزل كذلك حتى توفي أبو بكر وولي عمر فلم يلبث إلا يسيراَ حتى خرج مجاهداَ إلى الشام فمات بحوران في أول خلافة عمر ولم يبايع أحدًا‏.‏

رضي اللّه عنه في خلافته أخبرنا محمد بن أبي طاهر قال‏:‏ أخبرنا الحسن بن علي الجوهري قال‏:‏ أخبرنا ابن حيوية قال‏:‏ أخبرنا ابن معروف قال‏:‏ أخبرنا ابن الفهم قال‏:‏ حدَّثنا محمد بن سعد قال‏:‏ أخبرنا عبيد اللّه بن موسى قال‏:‏ أخبرنا هشام بن عروة قال عبيد اللّه‏:‏ أظنه عن أبيه قال‏:‏ لما ولي أبو بكر خطب الناس فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أما بعد أيها الناس قد وليت أمركم ولست بخيركم ولكن نزل القرآن وسن النبي صلى الله عليه وسلم فَعَلًمَنَا فَعَلِمْنَا اعلموا أن أكيس الكيس التقوى وأن أحمق الحمق الفجور وأن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه وأن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق أيها الناس إنما أنا متبع ولست بمبتدع فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوموني‏.‏

قال ابن سعد‏:‏ وأخبرنا وهب بن جرير قال‏:‏ حدَثنا أبي قال‏:‏ سمعت الحسن قال‏:‏ لما بويع أبو بكر قام خطيبًا ولا واللهّ ما خطب خطبته أحد بعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أما بعد فإني وليت هذا الأمر وأنا له كاره والله لوددت أن بعضكم كفانيه ألا وإنكم إن كلفتموني أن أعمل فيكم مثل عمل رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم لم أقم به كان رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم عبدًا أكرمه اللهّ بالوحي وعصمه الا وإنما أنا بشر ولستَ بخير من أحدكم فراعوني فإن رأيتموني استقمت فاتبعوني وإذا رأيتموني زغتَ فقوموني‏.‏

واعلموا أن لي شيطانا يعتريني فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني لا أوثر في أشعاركم وأبشاركم‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن أحمد أخبرنا رزق اللهّ أخبرنا أبو علي بن شاذان أخبرنا أبو جعفر بن برية حدَّثنا أبو بكر القرشي قال‏:‏ حدَّثني شريح بن يونس حدَثنا الوليد بن مسلم حدَّثنا الأوزاعي قال‏:‏ حدَّثني يحيى بن أبي كثير‏.‏

أن أبا بكر الصديق رضي اللهّ عنه كان يقول في خطبته‏:‏ أين الوضاءة الحسنة وجوههم المجبون بشبابهم‏.‏

أين الملوك الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحيطان أين الذين كانوا يعطون الغلبة في مواطن الحرب قد تضعضع بهم الدهر فأصبحوا في ظلمات القبور الوحا الوحا النجا النجا‏.‏

أخبرنا محمد بن أبي منصور أخبرنا المبارك بن عبد الجيار أخبرنا إبراهيم بن البرمكي أخبرنا أبو بكر بن نجيب حدَثنا أبو جعفر بن فريح حدَّثنا هناد بن السري حدَّثنا محمد بن فضيل عن عبد الرحمن بن إسحاق عن عبد الله القرشي عن عبد الله بن حكيم قال‏:‏ خطبنا أبو بكر رضي الله عنه فقال‏:‏ أما بعد فإني أوصيِكم بتقوى الله وأن تثنوا عليه بما هو أهله وأن تخلطوا الرغبة بالرهبهَ وتجمعوا الإلحاف بالمسألة فإن الله تعالى أثنى على زكريا وعلى أهل بيته فقال‏:‏ ‏{‏إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبأ وكانوا لنا خاشعين‏}‏ الأنبياء 90 ثم اعلموا عباد الله أن الله قد إرتهن بحقه أنفسكم وأخذ على ذلك مواثيقكم واشترى منكم القليل الفاني بالكثير الباقي وهذا كتاب الله فيكم لا تفنى عجائبه ولا يطفأ نوره فصدقوا قوله وانتصحوا قوله واستضيئوا منه ليوم الظلمة وإنما خلقكم لعبادته ووكل بكم الكرام الكاتبين يعلمون ما تفعلون ثم أعلموا عباد الله أنكم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه فإن استطعتم أن تنقضي الآجال وأنتم في عمل اللّه فافعلوا ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله فسابقوا في مهل آجالكم قبل أن تنقضي آجالكم فيردُّكم إلى أسوأ أعمالكم فإن أقوامًا جعلوا آجالهم لغيرهمِ ونسوا أنفسهم فأنهاكم أن تكونوا أمثالهم الوحا الوحا النجا النجا إن وراءكم طالباَ حثيثًا أمره سريع‏.‏

أخبرنا ابن ناصر أخبرنا المبارك بن عبد الجبار أخبرنا أبو الحسين بن المهتدي أخبرنا محمد بن الحسن بن المأمون حدَثنا أبو بكر بن الأنباري حدَثنا التيهان بن الهيثم حدَثنا عفان حدَّثنا حماد بن سلمة حدَّثنا هشام بن عروة عن أبيه قال‏:‏ قعد أبو بكر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء الحسين بن علي فصعد المنبر وقال‏:‏ انزل عن منبر أبي فقال له أبو بكر‏:‏ منبر أبيك لا منبر أبي منبر أبيك لا منبر أبي فقال علي رضي الله عنه وهو في ناحية القوم‏:‏ إن كانت لعن غير أمري‏.‏

لما ولي قال له عمر‏:‏ أنا أكفيك القضاء فجعله قاضيًا فمكث سنة لا يخاصم إليه أحد وكان يكتب له زيد بن ثابت وفي بعض الأوقات عثمان بن عفان رضي اللّه عنه ومن حضر‏.‏

وكان عامله على مكة عتاب بن أسيد وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص وعلى صنعاء المهاجر بن أبي أمية وعلى حضرموت زياد بن لبيد وعلى خولان يعلى بن أمية وعلى الجند معاذ بن جبل وعلى البحرين العلاء بن الحضرمي وبعث جماعة من الصحابة في أعمال وأمَرَ أبا عبيدة وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد وشرحبيل بن حسنة‏.‏

 ومن الحوادث التي كانت حين استخلف أبو بكر رضي الله عنه

من ذلك أنه خرج عقيب ولايته ليتجر في السوق على عادته أخبرنا محمد بن أبي طاهر أخبرنا الجوهري أخبرنا ابن حيوية أخبرنا ابن معروف حدَّثنا الحسين بن الفهم حدثنا محمد بن سعد قال‏:‏ أخبرنا مسلم بن إبراهيم قال‏:‏ حدثنا هشام الدستوائي قال‏:‏ حدثنا عطاء بن السائب قال‏:‏ لما استخلف أبو بكر رضي الله عنه أصبح غاديًا إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتجر بها فلقيه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة ابن الجراح فقالا له‏:‏ أين تريد يا خليفة رسول الله قال‏:‏ السوق قالا‏:‏ تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين فقال‏:‏ من أين أطعم عيالي قالا له‏:‏ انطلق قال ابن سعد‏:‏ وحدثنا عفان قال‏:‏ حدَثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال قال‏:‏ لما ولىِ أبو بكر رضي الله عنه قال أصحاب رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ افرضوا لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يغنيه قالوا‏:‏ نعم بُرْدَاهً إذا اخْلَقَهما وضعهما واخذ مثلهما وظهره إذا سافر ونفقته على أهله كما كان ينفق قبل أن يستخلف قال أبو بكر‏:‏ رضيت‏.‏

قال ابن سعد‏:‏ وحدَّثنا روح بن عبادة قال‏:‏ حدَّثنا ابن عون عن عمر بن إسحاق‏:‏ أن رجلأ رأى على عنق أبي بكر الصديق عباءة فقال‏:‏ ما هذا هاتها أكفيكها فقال‏:‏ إليك عني لا تغيرني أنت وابن الخطاب عن عيالي‏.‏

قال محمد بن سعد‏:‏ وأخبرنا أحمد بن عبد اللّه بن يونس قال‏:‏ حدَثنا أبو بكر بن عياش عن عمرو بن ميمون عن أبيه قال‏:‏ لما استخلف أبو بكر جعلوا له ألفين فقال‏:‏ زيدوني فإن لي عيالًا وقد شغلتموني عن التجارة قال‏:‏ فزادوه خمسمائة‏.‏

قال‏:‏ وكان يحلب للحي أغنامهم فلما بويع قالت جارية من الحي‏:‏ الآن لا تحلب لنا مناتح دارنا فسمعها أبو بكر فقال‏:‏ بلى لعمري لأحلبنها لكم وأني لأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه فكان يحلب لهم‏.‏

وروى الواقدي عن أشياخه قال‏:‏ كان منزل أبي بكر بالسنْح عند زوجته حبيبة بنت خارجة وكان قد حجر عليه حجرة من شعر فما زاد على ذلك حتى تحول إلى منزله بالمدينة فأقام بالسنح بعدما بويع له ستة أشهر يغدو على رجليه إلى منزله بالمدينة وربما ركب على فرس له وعليه إزار ورداء ممشق فيوافي المدينة فيصلى الصلوات بالناس فإذا صلى العشاء رجع إلى أهله بالسنح وكان إذا لم يحضر صلى بهم عمر وكان يقيم يوم الجمعة صدر النهار بالسنح يصبغ رأسه ولحيته ثم يروح إلى الجمعة‏.‏

وكان رجلًا تاجرًا وكان كل يوم يغدو إلى السوق فيبيع ويبتاع وكانت له قطعة غنم تروح عليه وربما خرج هو بنفسه فيها أو كان يحلب للحي أغنامهم وانه نزل المدينة وقال‏:‏ ما يصلح أمر الناس والتجارة واستنفق من مال المسلمين ما يصلحه أو يصلح عياله يومأ بيوم وكان الذي فرضوا له في السنة ستة آلاف درهم فلما حضرته الوفاة قال‏:‏ أرضي التي بمكان كذا للمسلمين بما أصبت من أموالهم فدفع ذلك إلى عمر ولقوح وعبد صيقل وقطيفة ما تساوي خمسة دراهم فقال عمر‏:‏ لقد أتْعَبْ مَنْ بعده‏.‏

وفي رواية أخرى أنه قال‏:‏ انظروا كم أنفقت منذ وليت من بيت المال فاقضوه فنظر عمر فوجدوا مبلغه ثمانية آلاف في ولايته‏.‏

ومن ذلك أنه أنفذ جيش أسامة بن زيد وارتد من ارتد أخبرنا محمد بن الحسين وإسماعيل بن أحمد قال‏:‏ حدَثنا ابن النقور قال‏:‏ أخبرنا المخلص قال حدَثنا أحمد بن عبد الله قال‏:‏ حدًثنا السري بن يحيى قال‏:‏ حدثنا بن إبراهيم قال‏:‏ حدِّثنا سيف بن عمر عن أبي ضمرة عن أبيه عن عاصم بن عدي قال‏:‏ نادى منادي أبي بكر من بعد الغد من يوم توفي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ليتم بعث أسامة ألا لا يبقين بالمدينة أحد من جند أسامة إلا خرج إلى عسكره بالجرف وقام في الناس فحمد اللهّ وأثنى عليه وقال‏:‏ يا أيها الناس إنما أنا مثلكم وإني لا أدري لعلكم ستكلفونني ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيق إن الله اصطفى محمدًا على العالمين وعصمه من الآفات‏.‏

وحدَثنا سيف عن هشام بن عروة عن أبيه قال‏:‏ لما بويع أبو بكر وجمع الأنصار على الأمر الذي افترقوا عنه قام ليتم بعث أسامة وقد ارتدت العرب ونجم النفاق واشرأبت اليهودية والنصرانية والمسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم وقلتهم وكثرة عدوهم فقال له الناس‏:‏ إن هؤلاء جُلّ المسلمين والعرب على ما ترى قد انتقضت بك فليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين‏.‏

فقال أبو بكر‏:‏ والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته‏.‏

فلما فصل أسامة ارتدت العرب وتروخي عن مسيلمة وطليحة فاستغلظ أمرهما وارتدت غطفان إلا ما كان من أشجع وخواص من الأفناء وقدمت هوازن رجلًا وأخرت أخرى أمسكوا الصدقة إلا ما كان من ثقيف وارتدت خواص من سليم وكذلك سائر الناس بكل مكان وقدمت رسل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من اليمن واليمامة وبلاد بني أسد فكان أول من صادم أبو بكر عبسًا وذبيان عاجلوه فقاتلهم قبل رجوع أسامة‏.‏

قال ربيعة الأسدي‏:‏ قدمت وفود أسد وغطفان وهوازن وطيء فعرضوا الصلاة على أن يعفوا من الزكاة واجتمع جماعة من المسلمين على قبول ذلك منهم فأتوا أبا بكر فأبى إلا ما كان رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ وأجلهم يومًا وليلة فتطايروا إلى عشائرهم‏.‏

قال الشعبي‏:‏ قال أبو بكر لعمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد وأمثالهم‏:‏ أترون ذلك يعني قبول الصلاة منهم دون الزكاة - قالوا‏:‏ نعم حتى تسكن الناس وترجع الجنود فقام فحمد الله وأثنى عليه وقال‏:‏ لو منعوني عقالًا مما أعطوه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما قبلت منهم ألا برئت الذمة من رجل من هؤلاء الوفود وجد بعد يومه وليلته فتواثبوا يتخطون رقاب الناس ثم أمر عليًا رضي الله عنه بالقيام على نقب من أنقاب المدينة وأمر الزبير بالقيام على نقب وأمر طلحة بالقيام على نقب آخر وأمر عبد اللهّ بن مسعود بالعسيس وقال إبراهيم النخعي‏:‏ أول ما ولي أبو بكر ولى عمر القضاء وأمر ابن مسعود بعسس المدينة‏.‏

قال علماء السير‏:‏ وجاء المشركون فطرقوا المدينة بعد ثلاث فوافقوا أنقاب المدينة محروسة فبهتوهم وخرج أبو بكر في أهل المسجد على النواضح إليهم فانفشً العدو فاتبعهم المسلمون فإذا للمشركين رد بأنحاء قد نفخوها ثم دهدوها بأرجلهم في وجوه الإبل فنفرت بالمسلمين وهم عليها حتى دخلت بهم المدينة فلم يصرع مسلم ولم يصب‏.‏

وبات أبو بكر ليلتئذ يتهيأ فعبى الناس وخرج على تعبيته في آخر الناس يمشي وعلى ميمنته النعمان بن مقرن وعلى ميسرته عبد الله بن مقرن وعلى الساقة سويد بن مقرن معه الركاب فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيد واحد فما سمعوا المسلمين حسًا حتى وضعوا فيهم السيوف فما ذَرّ قَرْن الشَّمس حتى ولى المشركون الأدبار‏.‏

واتبعهم أبو بكر حتى نزل بذي القصة ونزل بها النعمان بن مقرن في عدد ورجع إلى المدينة فدك بها المشركون فوثب بنو ذبيان وعبس على من كان فيهم من المسلمين فقتلوهم‏.‏

وقدم أسامة بعد أن غاب شهرين وأيامًا فاستخلفه أبو بكر على المدينة وقال له ولجنده‏:‏ أريحوا وأرعوا ظهوركم‏.‏

ثم خرج في الذين خرجوا إلى ذي القصة والذين كانوا على الأنقاب فقال له المسلمون‏:‏ ننشدك الله يِا خليفة رسول اللّه أن تعرض نفسك فإنك إن تصب لم يكن للناس نظام ومقامك أشد على العدو فابعث رجلأ فإن أصيب أمرت آخر فقال‏:‏ والله لا أفعل ولأواسينكم بنفسي فخرج في تعبيته إلى ذي القصة فنزلها وهي على بريد من المدينة فقطع فيها الجنود‏.‏

فلما أراح أسامة وجنده ظهرهم وحَمُوا قطع أبو بكر البعوث وبلغ عقد الألوية أحد عشر لواء على أحد عشر جندا وأمر أمير كل جند باستنفار من مر به من المسلمين من أصل القوة فعقد لخالد بن الوليد وأمره بطليحة بن خويلد فإذا فرغ منه سار إلى مالك بن نويرة وعقد لعكرمة بن أبي جهل وأمره بمسيلمة وللمهاجربن أبي أمية وأمره بجنود العنسي ومعونة الأبناء على قيس بن المشكوح ثم يمضي إلى كندة بحضرموت‏.‏

ولخالد بن سعيد بن العاص إلى الشام ولعمرو بن العاص إلى قضاعة ووديعة والحارث وما زال يعين لكل أمير قومًا يقصدهم‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ ارتدت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة العرب فأشار الناس على أبي بكر رضي الله عنه بالكف عنهم وأن يقبل منهم أن يصلوا ولا يؤتوا الزكاة وقالوا‏:‏ نخاف أن تلج العرب كلها في الرجوع عن الإسلام فقال‏:‏ والله لو منعوني عقالًا مما كانوا يؤدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه ووالله لو كان الناس كلهم كذلك لقاتلتهم بنفسي حتى تذهب أو يكون الدين للّه‏.‏

قال عمر بن الخطاب‏:‏ ما بقي أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أنا ولا غيري إلا وقد داخله فشل وطابت نفسه على ترك الزكاة لمن منعها غير أبي بكر فو الله ما هو إلا أن رأيت ما شرح الله صدر أبي بكرمن القيام بأمر الله فعرفت أنه الحق‏.‏وقال ابن إسحاق‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الزبرقان بن بدر السعدي على صدقات قومه بني سعد بن زيد مناة وبعث مالك بن نويرة الحنظلي على صدقات بني حنظلة وبعث بن حاتم على صدقات طيء فبلغهم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كانوا قبضوا الصدقات‏.‏

فأما مالك بن نويرة فإنه ردها إلى قومه وأما عدي والزبرتان فإن قومهما سألوهما أن يرداها عليهم فأبيا وقالا‏:‏ لا نرى إلا أنه سيقوم بهذا الأمر قائم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان ذلك دفعناها إليه وإن كان غير ذلك فأموالكم في أيديكم‏.‏

فأمسكا الصدقة حتى قدما أبي بكر فلم يزل لهما بذلك شرف على من سواهما من أهل نجد وكانت تلك الصدقة مما قوي بها أبو بكر على قتال أهل الردة‏.‏

فلما أراد أن يتجهز لحرب أهل الردة خرج بالناس حتى نزل بذي القصة فعبأ هنالك جنوده فبعث خالد بن الوليد في المهاجرين والأنصار وجعل ثابت بن قيس على الأنصار وأمره إلى خالد وأمره أن يصمد لطليحة وعيينة وكانا على بزاخة وهي ماء فسار خالد حتى إذا دنا من القوم بعث عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم وكان طليحة وأخوه مسلمة قد خرجا ليستخبرا فإذا هما بعكاشة وثابت فقتلاهما فلما مر بهما خالد مقتولين اشتد ذلك على المسلمين وقالوا‏:‏ سيدان من سادات المسلمين وفرسانهم‏.‏

فمال خالد إلى طيء فاستعان بهم على الحرب فسار حتى أتى بزاخة وبها عيينة في بني فزارة وطليحة في بني أسد وكانت بنو عامر في ناحية ينتظرون الدبرة على من تكون وكان طليحة متلففًا في كساء له قد غطى وجهه ليجيئه الوحي زعم وعيينة في الحرب فكان إذا أضجرته الحرب جاء إلى طليحة فيقول‏:‏ هل جاءك جبريل‏.‏

فيقول‏:‏ لا إلى أن قال عيينة‏:‏ يا بنىِ فزارة إن هذا كذاب فاجتنبوه فتفرقوا عنه فقال له قومه‏:‏ ما تأمرنا فقال طليحة‏:‏ اصنعوا مثل ما أصنع ثم جال في متن فرسه وحمل امرأته ثم مضى هاربًا إلى الشام فشد خالد بمن معه على بني فزارة فقتل من قتل منهم وأخذ عيينة أسيرًا ثم كر على بني عامر ففضهم وأخذ قرة بن هبيرة أسيرًا فأوثقه مع عيينة ثم بعث بهما إلى أبي بكر ومضى طليحة وأصحابه إلى الشام فأصابهم في طريقهم عطش شديد فقالوا‏:‏ يا عامر هلكنا عطشَاَ فما بقي من كهانتك فقال لرجل منهم‏:‏ يا محراق اركب فرسًا ويبالا ثم شن عليه إقبالا فإنك سترى فارات طوالا ثم تجد عندها حلالا فركب مخراق فرأى الفارات وعندها عين فشربوا وسقوا دوابهم ثم مضى إلى الشام فلما علم من هناك من المسلمين بطليحة أخذوه فأوثقوه ثم وجهوا به إلى أبي بكر فتوفي أبو بكر وطليحة في الطريق فقدم به على عمر فأسلم وحسن إسلامه‏.‏

فصل في ذكر قصة البطاح فلما فرغ خالد من أسد وغطفان وهوازن سار إلى البطاح وعليها مالك بن نويرة فلم يجد هناك أحدًا ووجد مالكًا قد فرقهم في أموالهم ونهاهم عن الاجتماع وذلك حين تردد على مالك أمره فبث خالد السرايا وأمرهم أن يأتوه بكل من لم يجب فإن امتنع قتلوه‏.‏

وكان مما أوصى به أبو بكر‏:‏ إذا نزلتم فأذنوا وأقيموا فإن أذن القوم وأقاموا فكفوا عنهم وإلا فالغارة وإن أجابوا إلى الإسلام فسائلوهم فإن أقروا بالزكاة فاقبلوا منهم وإن أبوا فالغارة فجاءت الخيل إلى خالد بمالك بن نويرة في نفر من بني ثعلبة بن يربوع فاختلف أصحاب خالد فيهم فشهد أبو قتادة بن ربعي الأنصاري عند خالد أنهم قد أذنوا وأقاموا وصلوا‏.‏

وقال بعض الناس‏:‏ لم نسمع منهم آذانًا ولا رأيناهم صلوا‏.‏

فراجع مالك خالدًا في كلام فقال فيه مالك‏:‏ قد كان صاحبكم يقول ذلك يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خالد‏:‏ يا عدو الله وما تعده لك صاحبًا فضرب عنقه وقتل أصحابه وكانت له امرأة يقال لها‏:‏ أم تميم بنت المنهال من أجمل الناس والنساء فتوجها خالد‏.‏

وكان يقول الذي قتل مالكًا بيده عبد بن الأزور الأسدي أخو ضرار فقال متمم يرثي أخاه‏:‏ نعم القتيل إذا الرياح تناوحت نحو الكنيف فقتلك ابن الأزور ومعنى تناوحت جاءت من كل موضع‏.‏

أخبرنا أبو بكر بن محمد بن الحسين وإسماعيل بن أحمد قالا‏:‏ أخبرنا ابن النقور أخبرنا أبو طاهر المخلص أخبرنا أبو بكر أحمد بن عبد الله بن سيف أخبرنا السري بن يحيى حدَثنا شعيب بن إبراهيم حدَّثنا سيف بن عمر عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير وغيره‏:‏ أن خالدًا لما نزل البطاح بث السرايا فأتي بمالك وكان في السرية التي أصابتهم أبو قتادة فاختلف فيهم الناس وكان أبو قتادة شهد أن لا سبيل عليه ولا على أصحابه وشهد الأعراب أنهم لم يؤذنوا ولم يقيموا ولم يصلوا وجاءت أم تميم كاشفة وجهها حتى أكبت على مالك وكانت أجمل الناس فقال لها‏:‏ إليك عني فقد والله قتلتيني فأمر بضرب أعناقهم فقام إليه أبو قتادة فناشده ونهاه فلم يلتفت إليه فركب أبو قتادة ولحق بأبي بكر وحلف لا يسير في جيش تحت لواء خالد فأخبره الخبر وقال‏:‏ ترك قولي وأخذ بشهادة الأعراب الذين فَتَنَتْهم الغنائم فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ إن في صيف خالد رهقًا وإن يكن هذا حقاَ فعليك أن تَقِيدَه فسكت عنه أبو بكر وكتب إليه أبو بكر رضي الله عنه أن يقدم لينظر فيما فعل بمالك بن نوبرة‏.‏

 قصة أهل اليمامة

قال المصنف‏:‏ ولما فرغ خالد من البطاح أقبل إلى المدينة فدخل المسجد وعليه ثياب عليها صدأ الحديد وعليه عمامة قد غرز فيها ثلاثة أسهم فلما رآه عمر رضي الله عنه قال‏:‏ أرثاء يا عدو الله عدوت على رجل من المسلمين فقتلته ثم تزوجت امرأته لئن أمكنني الله منك لأرجمنك ثم تناول الأسهم فكسرها وخالد ساكت لا يرد عليه شيئًا يظن أن ذلك عن رأي أبي بكر فلما دخل على أبي بكر أخبره الخبر واعتذر إليه فصدقه وقبل عذره وكان عمر يحرض أبا بكر على عزله وأن يقيد منه فقال أبو بكر‏:‏ مه يا عمر ما هو بأول من أخطأ فارفع لسانك عن خالد ثم ودى مالكًا وأمر خالدًا أن يتجهز للخروج إلى مسيلمة الكذاب ووجه معه المهاجرين والأنصار وكان ثمامة بن أثال الحنفي قد كتب إلى أبي بكر رضي الله عنه يخبره أن أمر مسيلمة قد استغلظ‏.‏

فبعث أبو بكر عكرمة بن أبي جهل واتبعه شرحبيل بن حسنة وقال‏:‏ الحق بعكرمة فاجتمعا على قتال مسيلمة وهو عليك فإن فرغتم فانصرفا إلى قضاعة وأنت عليه فلما أحس عكرمة بذلك أغذَ السير فقدم على ثمامة فأنهضه فقال ثمامة‏:‏ لا تفعل فإن أمر الرجل مستكثف وقد بلغني إن خلفك جندًا فيتلاحقون فأبى عكرمة وعاجلهم مسيلمة فالتقوا فاقتتلوا فأصيب من المسلمين فبعث أبو بكر إلى عكرمة فصرفه إلى وجه آخر‏.‏

فلما قدم خالد من البطاح أمره أبو بكر بالسير إلى مسيلمة فخرج حتى إذا كان قريبًا من اليمامة تقدمت خيل المسلمين فإذا هم بمجاعة بن مرارة الحنفي في ستة نفر من بني حنيفة فجاءوا بهم إلى خالد فقال لهم‏:‏ يا بني حنيفة ما تقولون فقالوا‏:‏ منا نبي ومنكم نبي فعرضهم على السيف فبقي منهم مجاعة ورجل يقال له‏:‏ سارية بن عامر‏.‏

فلما قدم سارية ليقتل قال لخالد‏:‏ إن كنت تريد بأهل هذه القرية خيرًا أو شرًا فاستبق هذا الرجل يعني مجاعة ففعل ذلك وأوثقه في الحديد ثم دفعه إلى امرأته وقال‏:‏ استوصي به خيرًا ثم مضى حتى نزل منزلًا من اليمامة فعسكر به فخرج إليه مسيلمة وكان عدد بني حنيفة أربعين ألف مقاتل وقدم مسيلمة أمامه الرَّحَال بن عُنْفوة وقد كان الرحَّال قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وقرأ سورة البقرة‏.‏

فلما رجع إلى مسيلمة شهد له في جماعة من بني حنيفة أنه سمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الأمر وأنه قد أعطي النبوة كما أعطيها وكان قوله أشد على أهل اليمامة من فتنة مسيلمة‏.‏

قال أبو هريرة‏:‏ جلست في رهط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن فيكم لرجلًا ضرسه في النار مثل أحد ‏"‏‏.‏

فهلك القوم وبقيت أنا والرحال فكنت متخوفًا لها حتى خرج الرحال مع مسيلمة فشهد له بالنبوة قالوا‏:‏ الرجال‏.‏

فخرج يومئذ في مقدمة مسيلمة ومعه محكم اليمامة وهو محكم بن طفيل والتقى الناس فكانت راية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة فقالوا له‏:‏ انظر كيف تكون إياك أن تفر قال‏:‏ بئس حامل القرآن أنا إذن فقاتل حتى قتل‏.‏

وقال أبو حذيفة‏:‏ يا أهل القرآن زينوا القرآن بالأفعال وحمل فأنفذهم حينئذ وقتل‏.‏

وكانت راية الأنصار مع ثابت بن قيس بن شماس واقتتل الناس قتالًا شديدًا فقتل الرحال ومحكم اليمامة أما الرحال فقتله زيد بن الخطاب وأما محكم فقتله عبد الرحمن بن أبي بكر وثبت مسيلمة ثم جال المسلمون حوله فتراجعوا فدخلت بنو حنيفة في فسطاط خالد فرعلوه بسيوفهم وحمل رجل منهم على أم تميم بالسيف فألقى مجاعة عليها رداءه وقال‏:‏ إنها في جواري فنعم الحرة ما علمت فأصيب من المسلمين ألف ومائتا رجل وانكشف باقيهم‏.‏

فلما رأى ذلك ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري قال‏:‏ يا معشر المسلمين بئس ما عودتم أنفسكم ثم قال‏:‏ اللهم إني أبرأ إليك من هؤلاء يعني المشركين وأعتذر إليك مما فعل هؤلاء يعني المسلمين ثم قاتل وجالد بسيفه حتى قتل‏.‏

وكان قد ضرب فقطعت رجله فرمى بها قاتله فقتله‏.‏

وقاتل زيد بن الخطاب أخو عمر حتى قتل‏.‏

فلما رجع عبد الله بن عمر فقال له‏:‏ هلا هلكت قبل زيد فقال‏:‏ قد عرضت على ذلك ولكن اللّه كرمه بالشهادة‏.‏

وفي رواية أخرى أنه قال له‏:‏ ما جاء بك وقد هلك زيد ألا واريت وجهك عني‏.‏

وكان البراء بن مالك أخو أنس إذا حضر الحرب أخذته العدواء يعني الرعدة حتى يقعد عليه الرجال ثم ينهم ى لأسد فلما رأى ما أصاب الناس أخذه ما كان يأخذه فثاب إليه ناس من المسلمين فقاتلوا قتالًا شديدًا حتى انحازت بنو حنيفة واتبعهم المسلمون حتى أصاروهم إلى حديقة فدخلوها ثم أغلقوا عليهم فقال البراء‏:‏ احملوني والقوني إليهم فألقوه إليهم ففتح الباب للمسلمين وقد قتل عشرة فقتل في هذه الحديقة وفي هذه المعركة بضعة عشر ألف مقاتل‏.‏

وكانت بنو حنيفة تقول لمسيلمة حين رأت خذلانها‏:‏ أين ما كنت تعدنا فيقول‏:‏ قاتلوا عن أحسابكم‏.‏

وقتل الله عز وجل مسيلمة اشترك في قتله رجلان‏:‏ رجل من الأنصار ووحشي مولى جبير بن مطعم‏.‏

وكان وحشي يقول‏:‏ وقعت فيه حربتي وضربه الأنصاري والله يعلم أينا قتله‏.‏

وكان يقول‏:‏ قتلت خير الناس وشر الناس حمزة ومسيلمة‏.‏

وكانوا يقولون‏:‏ قتله العبد الأسود فأما الأنصاري فلا شك أن أبا دجانة سماك بن خرشة قتله‏.‏

فلما أخبر خالد بقتل مسيلمة خرج بمجاعة يرسفُ في حديده ليدله على مسيلمة فمر بمحكم بن الطفيل فقال خالد‏:‏ هذا صاحبكم قال‏:‏ لا هدا والله خير منه وأكرم ثم دخل الحديقة فإذا رُوَيْجل أصَيْفر أخَيْنس فقال له مجاعة‏:‏ هذا صاحبكم قد فرغتم منه فقال خالد‏:‏ هذا فعل بكم ما فعل قال‏:‏ قد كان ذلك يا خالد وإنه والله ما جاءك إلا سرعان الناس وإن جماهير الناس لفي الحصون‏.‏

قال‏:‏ ويلك ما تقول قال‏:‏ هو والله الحق فهلم لأصالحك على قومي‏.‏

فدعني حتى آتيهم وأصالحهم عنك فإنهم يسمعون مني ودخل الحصن فأمر الصبيان والنساء فلبسوا السلاح ثم اشرفوا عليه وخالد يظنهم رجالًا فلما نظر إليهم وقد قتل أكثر أصحابه صالح مجاعة عنهم الربع من السبي والحمراء والبيضاء والحلقة ثم علم بعد ذلك أنهم كانوا صبيانًا ونساء فقال لمجاعة‏:‏ خدعتني فقال‏:‏ قومي أفنتهم الحرب فلا تلمني فيهم‏.‏

فلما فرغ من صلحهم إذا كتاب من أبي بكر رضي الله عنه قَد جاءه أن يقتل منهم كل من أنبت فجاءه الكتاب بعد الصلح فمضى عليهم الصلح فلم يقتلوا ثم خطب خالد إلى مجاعة ابنته فقال له‏:‏ مهلًا أيها الرجل إنه قاطع ظهري وظهرك عن صاحبك تزوج النساء وحول أطنابك دماء ألف ومائتي رجل من المسلمين فقال‏:‏ زوجني لا أبالك فزوجه فبلغ ذلك أبا بكر رضي الله عنه فكتب إليه‏:‏ لعمري يا ابن أم خالد إنك لفارغ حين تتزوج النساء وحول حجرتك دماء المسلمين لم تجف بعد فإذا جاءك كتابي فالحق بمن معك من جموعنا بأهل الشام واجعل طريقك على العراق فقال وهو يقرأ الكتاب‏:‏ هذا عمل الأعَيْسر يعني عمر بن الخطاب‏.‏

قال علماء السير‏:‏ قتل من المسلمين يوم اليمامة أكثر من ألف وقتل من المشركين نحو عشرين ألفًا وكانت حرب اليمامة سنة إحدى عشرة في قول جماعة منهم أبو معشر‏.‏

فأما ابن إسحاق فإنه قال‏:‏ فتح اليمامة واليمن والبحرين وبعث الجنود إلى الشام في سنة اثنتي عشرة‏.‏

 قصة أهل البحرين

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث على أهل البحرين المنذر بن ساوي واشتكى هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر واحد ومات المنذر بعد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقليل‏.‏

وإرتد أهل البحرين فأما عبد القيس ففاءت وأما بكر فتمت على ردتها وكان الذي ثنى عبد القيس الجارود بن عمرو حتى فاءوا‏.‏

وذلك أنهم قالوا‏:‏ لو كان محمد نبيًا ما مات فقال الجارود‏:‏ تعلمون أنه كان قبله أنبياء‏.‏

قالوا‏:‏ نعم قال‏:‏ فما فعلوا‏.‏

قالوا‏:‏ ماتوا قال‏:‏ فإن محمدًا قد مات كما ماتوا فعادوا إلى الإسلام‏.‏

فلما فرغ خالد من اليمامة بعث أبو بكر العلاء بن الحضرمي إلى البحرين في ستة عشر فارسًا فقال ابن عبد القيس‏:‏ إن لم يرتدوا فهم جندك فسار مع العلاء حتى بلغه عبد القيس فكتب الجارود إلى العلاء‏:‏ إن بيني وبينك أسود النهار وضباع الليل ففهم فبعث العلاء جنوده تحت الليل فقتلوهم وسار وأمده ثمامة بقومه فنزل العلاء بأصحابه ليلة فنفرت الإبل فما بقي عندهم لا زاد ولا مزاد وأوصى بعضهم إلى بعض فصلى بهم العلاء الفجر وجثى فدعا فلاح لهم ماء فذهبوا إليه فشربوا فإذا الإبل تكرد من كل وجه فقام كل رجل منهمِ إلى ظهره فما فقدوا سلكًا وخندق المسلمون وتراجعوا وتراوحوا القتال شهراَ ثم كر المرتدون فتحصن المسلمون منهمِ بحصن بالبحرين يقال له‏:‏ جواثا حتى كادوا يهلكون جوعًا فنزل بعض المسلمين ليلاَ فجال في عسكر القوم ثم عاد فقال‏:‏ إن القوم سكارى فخرج إليهم العلاء وأصحابه فوضعوا فيهم السيوف وأخذوا غنائمهم‏.‏

ولما فرغ العلاء من البحرين سار إلى هجر فافتتحها صلحًا وكان فيها راهب فقيل له‏:‏ ما دعاك إلى الإسلام فقال‏:‏ ثلاثة أشياء خشيت أن يمسخني اللّه بعدها إن لم أسلم‏:‏ فَيْضٌ في الرمال وتمهيد أثباج البحار ودعاء سمعته في عسكرهم في الهواء من السحر قالوا‏:‏ اللهم أنت الرحمن الرحيم لا إله غيرك والبديع ليس قبلك شيء والدائم غير الغافل والحي الذي لا يموت وخالق ما يُرَى وما لا يُرَى وكل يوم أنت في شأن علمت اللهم كل شيء بغير تَعَلُّم فعلمت أن القوم لم يعانوا بالملائكة إلا وهم على أمر اللهّ‏.‏

فكان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يسمعون من ذلك الهجري بعد‏.‏

ثم سار العلاء إلى الحطم ووجه بعض أصحابه فافتتحوها عنوة وندب الناس إلى دارين فأتى ساحل البحر فدعا اللّه واقتحموا فأجازوه كأنهم يمشون على مثل رَمْلة مَيْثَاءَ فوقها ماء يغمر أخفاف الإبل وكان بين الساحل ودارين مسيرة يوم وليلة لسفن البحر فالتقوا واقتتلوا وسبوا الذراري واستاقوا الأموال فبلغ نفل الفارس ستة آلاف والراجل ألفين ثم رجعوا عودهم على بدئهم كما عبروا‏.‏

وفي ذلك يقول عفيف بن المنذر‏:‏

ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّه ذَلَّلَ بَحْرهُ ** وأنْزَلَ بِالْكُفَّار إِحْدَى الجَلائِل

دَعَوْنَا الَّذِي شَقَ البِحَارَ فَجَاءَنَا ** بِأعْجَب مِنْ فَلْقِ البِحَار الأوَائِل

ولما قفل العلاء بالناس مروا على ماء لبني قيس بن ثعلبة فرأوا على ثمامة بن أثال خميصة الحُطَمْ فقالوا‏:‏ هذه خميصة الحطم وأنت قتلته قال‏:‏ لست قاتله لكن اشتريتها من الفيء‏.‏

 ذكر قصة أهل عمان ومهرة واليمن

قال علماء السير‏:‏ نبغ بعمان لقيط بن مالك الأزدي وكان يسمى في الجاهلية الجُلَنْدَى فادعى ما ادعاه من تنبأ وغلب على عمان مرتدًا وارتد أهل عمان فبعث أبو بكر حذيفة بن محصن إلى عمان وعرفجة البارقي إلى مهرة وأمرهما أن يبدءا بعمان وكان أبو بكر قد بعث عكرمة بن أبي جهل إلى مسيلمة واستعجل قبل أن يلحقه المدد فقاتل وأصيب جماعة من المسلمين فكت إليه أبو بكر يعنفه على سرعته ويقول‏:‏ لا أرَينّك ولا أسمعن بك إلا بعد بلاء والحق بعمان حتى تقاتل أهل عمان وتعين حذيفة وعرفجة فإذا فرغتم فامض إلى مهرة ثم ليكن وجهك منها إلى اليمن فأوطيء ما بين عمان واليمن ممن ارتد وَلْيَبْلُغني بلاؤك‏.‏

فلما اجتمعوا جمع لقيط فاقتتلوا فرأى المسلمون في أنفسهم خللًا فإذا مواد قد أقبلت إليهم من عبد القيس وغيرهم فوهن اللّه الشرك وقتل من المشركين في المعركة عشرة آلاف فأثخنوا فيهم وسبوا الذراري وقسموا ذلك على المسلمين وبعثوا بالخمس إلى أبي بكر رضي اللهّ عنه مع عرفجة‏.‏

 ذكر ردة مهرة

ولما فرغ عكرمة وعرفجة وحذيفة من ردة عمان خرج عكرمة في جنده نحو مهرة واستنصر مَنْ حول عمان وأهل عمان وسار حتى أتى مهرة والتقوا فكشف اللّه جنود المرتدين وقتل رئيسهم وركبهم المسلمون فقتلوا ما شاءوا فخمس عكرمة الفيء فبعث بالأخماس إلى أبي بكر وقسم الأربعة أخماس على المسلمين‏.‏

 ذكر خبر ردة اليمن

كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قد ولى المهاجر بن أمية صنعاء وزياد بن لبيد حضرموت فتوفىِ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهما على عملهما فانتقضت كندة على زياد بن لبيد إلا طائفة منهم ثبتوا معه فقيل له‏:‏ إن بني عمرو بن معاوية قد جمعوا لك فعاجلهم فثبتهم وحاز غنائمهم ثم أقبل بها راجعًا فمر بالأشعث بن قيس فخرج الأشعث في قومه يعترض لزيِاد فأصيب ناس من المسلمين وانحاز زياد ثم كتب إلى أبي بكر رضي اللّه عنه يخبره ذلك وكتب أبو بكر رضي الله عنه إلى المهاجر بصنعاء أن يمد زيادًا بنفسه فسار إليه المهاجر ثم أنهما جمعا ولقوا المشركين فأثخنوهم‏.‏

ووجه أبو بكر رضي اللّه عنه عكرمة بن أبي جهل في خمسمائة مدداُ لزياد فقدموا عليه وقد قتل أولئك وغنم أموالهم فأشركهم في الغنيمة‏.‏

وتحصنت ملوك كندة ومن بقي معهم في النجير وأغلقوا عليهم فجثم عليهم زياد والمهاجر وعكرمة وكان في الحصن الأشعث بن قيس فلما طال الحصار قال الأشعث‏:‏ أنا أفتح لكم باب الحصن وأمكنكم ممن فيه على أن تؤمنوا لي عشرة فأعطوه ذلك ففتح باب الحصن ثم عزل عشرة أنفس ولم يعد فيهم نفسه وهو يرى أنهم لا يحسبون به في العشرة فقالوا‏:‏ إنما صالحناك على عشرة فنحن نعفو عن هؤلاء ونقتلك لأنك لم تعد نفسك فيهم فقال لهم‏:‏ وإن ظنكم ليدلكم على أني أصالح عن غيري وأخرج بغير أمان فجادلهم وجادلوه فقالوا‏:‏ نرد أمرك إلى أبي بكر رضي اللهّ عنه فيرى فيك رأيه وأمر زياد بكل من في الحصن أن يقتلوا فقتلوا وكانوا سبعمائة وسبى نساءهم وذراريهم وحمل الأشعث إلى أبي بكر رضي اللّه عنه فزعم أنه قد تاب ودخل في الإسلام وقال‏:‏ منَ علي وزوجني أختك فإني قد أسلمت فزوجه أبو بكر رضي الله عنه أم فروة بنت أبي قحافة فولدت له محمدًا وإسحاق وإسماعيل فأقام بالمدينة ثم خرج إلى الشام في خلافة عمر رضي اللّه عنه وكانت ردة اليمن سنة إحدى عشرة‏.‏

روى المؤلف بإسناده عن أبي رجاء العطاردي قال‏:‏ دخلت المدينة فرأيت الناس مجتمعين ورأيت رجلًا يقبل رأس رجل وهو يقول‏:‏ أنا فداؤك لولا أنت لهلكنا فقلت‏:‏ من المُقَبِّل ومن المُقَبَّل قالوا‏:‏ ذاك عمر يقبل رأس أبي بكر رضي اللّه عنهما في قتاله أهل الردة إذ منعوا الزكاة حتى أتوا وفي هذه السنة كتب معاذ بن جبل وعمال اليمن إلى أبي بكر يستأذنونه في القدوم فكتب إليهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعثكم لما بعثكم له من أمره فمن كان أنفذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فشاء أن يرجع فليرجع وليستخلف على عمله ومن شاء أن يقيم فليقم فرجعوا‏.‏

فلما قدم معاذ لقي عمر بن الخطاب فاعتنقا وعزا كل واحد منهما صاحبه برسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وكان مع معاذ الخراج وكان معه وصفاء قد عزلهم فقال عمر‏:‏ ما هؤلاء قال‏:‏ أهدوا لي فقال عمر‏:‏ أطعني وائت بهم أبا بكر فليطيبهم لك قال معاذ‏:‏ لا لعمري آتي أبا بكر بمالي يطيبه لي فقال عمر‏:‏ إنه ليس لك‏.‏

فلما كان الليل وأصبح أتاه فقال له‏:‏ لقد رأيتني البارحة كأني أدنو إلى النار وأنت آخذ بحجزتي أني وجدت الأمر كما قلت‏.‏

فأتى أبا بكر فاستحلها فأحلهم‏.‏

فبينما معاذ قائم يصلي رأى رقيقه يصلون كلهم فقال لهم‏:‏ ما تصنعون قالوا‏:‏ نصلي قال‏:‏ لمن قالوا‏:‏ لله عز وجل أقال‏:‏ فاذهبوا فأنتم لله فأعتقهم‏.‏

وفي هذه السنة حج بالناس عمر بن الخطاب وقيل‏:‏ بل عبد الرحمن بن عوف وقيل‏:‏ عتاب بن أسيد‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

ثابت بن أقرن بن ثعلبة بن عدي‏:‏ شهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج مع خالد بن الوليد إلى أهل الردة فبعثه مع عكاشة فقتلا‏.‏

ثابت بن قيس بن شماس بن مالك بن أمرىء القيس‏:‏ شهد أحدًا والخندق والمشاهد بعدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان خطيبًا جهير الصوت‏.‏

أنبأنا محمد بن أبي طاهر أنبأنا البرمكي أخبرنا ابن حيوية أخبرنا أحمد بن معروف حدَّثنا الحسين بن الفهم حدَّثنا محمد بن سعد أخبرنا عفان حدَثنا حماد بن سلمة أخبرنا ثابت عن أنس‏:‏ أن ثابت بن قيس جاء يوم اليمامة وقد تحنط ولبس ثوبين أبيضين تكفن فيهما وقد انهزم القوم فقال‏:‏ اللهم أني أبرأ إليك مما جاءه هؤلاء يعني المشركين وأعتذر إليك مما جاء به هؤلاء يعني المسلمين ثم قال‏:‏ بئس ما عودتم أقرانكم منذ اليوم خلوا بيننا وبينهم ساعة فحمل فقاتل حتى قتل‏.‏

ثابت بن هزال بن عمرو‏:‏ شهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقتل يوم اليمامة‏.‏

ثمامة بن أثال‏:‏ قتل في هذه السنة‏.‏

حبيب بن يزيد مولى عمارة‏:‏ كان يقول له مسيلمة‏:‏ أتشهد أني رسول اللّه فيسكت فيقول‏:‏ حزن بن آي وهب‏:‏ قتل يوم اليمامة‏.‏

زيد بن الخطاب أخو عمر كان أسن من عمر وأسلم قبل عمر وشهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ سبقني زيد الإسلام والشهادة وما هبت الصبا قط إلا أتتني بريح زيد‏.‏

أخبرنا محمد بن أبي طاهر أخبرنا الجوهري أخبرنا ابن حيوية أخبرنا أحمد بن معروف حدَثنا الحسين بن الفهم حدَثنا محمد بن سعد أخبرنا خالد بن مخلد البجلي حدَثنا عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر قال‏:‏ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأخيه زيد يوم أحد‏:‏ أقسمت عليك إلا لبست درعي فلبسها ثم نزعها فقال له عمر‏:‏ ما لك قال‏:‏ إني أريد لنفسي ما تريد لنفسك‏.‏

قال ابن سعد‏:‏ وحدَثنا محمد بن عمر حدَثني الحجاف بن عبد الرحمن من ولد زيد بن الخطاب عن أبيه قال‏:‏ كان زيد بن الخطاب يحمل راية المسلمين يوم اليمامة وقد انكشف المسلمون حتى غلبت حنيفة على الرِّجال فجعل زيد يقول‏:‏ أما الرجال فلا رجال ثم جعل يصيح بأعلى صوته‏:‏ اللهم إني أعتذر إِليك من فرار أصحابي وأبرأ إليك مما جاء به مسيلمة وجعل يشتد بالراية يتقدم بها في نحر العدو ثم ضارب بسيفه حتى قتل ووقعت الرايِة فأخذها سالم مولى أبي حذيفة‏.‏

قال ابن سعد‏:‏ كان لثُبَيْتَةَ بنت يعار الأنصارية وكانت تحت أبي حذيفة بن عتبة فأعتقته فتولى أبا حذيفة وتبناه أبو حذيفة‏.‏

وقال الخطيب‏:‏ اسم الذي أعتقته سلمى بنت يعار‏.‏

وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن سالمًا شديد الحب لله ‏"‏‏.‏

وكان سالم يؤم المهاجرين من مكة حين قدموا وكان أقرأهم وفيهم أبو بكر وعمر وكان اللواء يوم اليمامة بيد زيد بن الخطاب فلما قتل أخذه سالم فقالوا له‏:‏ إنا نخاف أن نؤتى من قبلك فقال‏:‏ بئس حامل القرآن أنا إن أتيتم من قبلي فقطعت يمينه فتناولها بشماله فقطعت فاعتنق اللواء وجعل يقول‏:‏ ‏{‏وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم‏}‏ آل عمران 44 ووقف بالراية حتى قتل فعرض ميراثه على مولاته فأبت وقالت‏:‏ أنا سيبته للهّ تعالى‏.‏

فجعل عمر ميراثه في بيت المال‏.‏

سماك بن خرشة أبو دجانة‏:‏ شهد بدرًا وأحدًا وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ وبايعه على الموت وقال رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم يومئذ‏:‏ ‏"‏ من يأخذ هذا السيف بحقه فقال‏:‏ أنا فأخذه ففلق به هام المشركين‏.‏

أخبرنا محمد بن أبي طاهر البزار أخبرنا أبو محمد الجوهري أخبرنا أبو عمرو بن حيوية أخبرنا أحمد بن معروف حدًثنا الحسين بن الفهم حدَّثنا محمد بن سعد عن عبد اللّه بن جعفر الرقبي قال‏:‏ حدَثنا أبو المليح عن ميمون بن مهران قال‏:‏ لما انصرفوا يوم أحد قال علي لفاطمة‏:‏ خذي السيف غير ذميم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن كنت أحسنت القتال فقد أحسنه الحارث بن الصمة وأبو دجانة ‏"‏ قال ابن سعد‏:‏ وأخبرنا معن بن عيسى قال‏:‏ حدَثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم قال‏:‏ إنه دخل على أبي دجانة وهو مريض وكان وجهه يتهلل فقيل‏:‏ ما لوجهك يتهلل‏.‏

فقال‏:‏ ما من عملي شيء أوثق من اثنتين أما إحداهما فكنت لا أتكلم فيما لا يعنيني وأما الأخرى فكان قلبي للمسلمين سليمًا‏.‏

قال ابن سعد‏:‏ قال محمد بن عمر‏:‏ شهد أبو دجانه اليمامة وهو فيمن شرك في قتل مسيلمة الكذاب وقتل أبو دجانة يومئذ شهيدًا‏.‏

السائب بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى‏:‏ شهد أحدًا والخندق والمشاهد بعدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل يوم اليمامة‏.‏

سليط بن عمرو بن عبد شمس بن‏:‏ قديم الإسلام بمكة وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية ثم إلى المدينة وشهد أحدًا وما بعدها وكان رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم وجهه بكتاب إلى هوذة بن علي الحنفي وقتل سليط يوم اليمامة‏.‏

شجاع بن وهب‏:‏ شهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقتل يوم عبد اللّه بن أبي بكر الصديق‏:‏ أمه قتيلة أسلم قديمًا ولم يسمع له بمشهد الا يوم الطائف فإنه شهد مع رسول اللّه صلى الله عليه وسام فرماه أبو محجن بسهم فبقي منه جريحًا مدة ثم اندمل ثم انتقض به في شوال سنة إحدى عشرة في خلافة أبيه فمات ونزل في حفرته عبد الرحمن بن أبي بكر وعمر بن الخطاب رضي اللّه عنهما‏.‏عبد اللّه بن سهيل بن عمرو‏:‏ هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية فلما قدم مكة أخذه أبوه فأوثقه وفتنه‏.‏

أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر أخبرنا الجوهري أخبرنا ابن حيوية أخبرنا ابن معروف أخبرنا ابن الفهم حدَّثنا محمد بن سعد قال‏:‏ قال محمد بن عمر‏:‏ حدَّثني عطاء بن محمد بن عمرو بن عطاء عن أبيه قال‏:‏ خرج عبد اللّه بن سهيل إلى نفيربدرمع المشركين وهو مع أبيه سهيل في نفقته وحملانه ولا يشك أبوه أنه رجع إلى دينه فلما التقوا انحازعبد اللّه بن سهيل إلى المسلمين حتى جاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قبل القتال فشهد بدرًا مسلمًا وهو ابن سبع وعشرين سنة فغاظ ذلك أباه غيظًا شديدًا‏.‏

قال عبد اللّه‏:‏ فجعل اللّه عز وجل لي وله في ذلك خيرًا كثيرًا‏.‏

وشهد عبد اللّه أحدًا والخندق والمشاهد كلها وقتل يوم اليمامة شهيدًا وهو ابن ثمان وثلاثين سنة فلما حج أبو بكرالصديق فىِ خلافته أتاه سهيل بن عمرو فعزاه أبو بكر بعبد اللّه فقال سهيل‏:‏ لقد بلغني أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ يشفع الشهيد عبد اللّه بن مخرمة بن عبد العزى أبو محمد‏:‏ هاجر إلى الحبشة الهجرتين وشهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها مع رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم وقتل يوم اليمامة شهيدآَ‏.‏

عباد بن بشر بن وقش بن زغبة أبو بشر‏:‏ أسلم بالمدينة على يديِ مصعب بن عمير وشهد بدرًا وكان ممن قتل كعب بن الأشرف وجعله رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم على مقاسم حنين واستعمله على حرسه بتبوك مدة إقامته هناك وكانت اقامته عشرين يومًا وشهد يوم اليمامة فقتل شهيدًا وهو ابن خمس وأربعين سنة‏.‏

عبد الرحمن بن عبد اللّه بن ثعلبة أبو عقيل‏:‏ شهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقتل يوم اليمامة‏.‏

أخبرنا محمد بن أبي طاهر البزار أخبرنا الحسن بن علي الجوهري أخبرنا ابن جوية أخبرنا أحمد بن معروف حدَثنا الحسين بن الفهم حدَّثنا محمد بن سعد أخبرنا الواقدي حدَّثنا جعفر بن عبد اللّه بن أسلم قال‏:‏ لما كان يوم اليمامة واصطف الناس للقتال كان أول من خرج أبو عقيل رُمي بسهم فوقع بين منكبيه وفؤاده في غير مقتل فأخرج السهم ووهن له شقه الأيسر في أول النهار وجر إلى الرحل فلما حميِ القتال وانهزم المسلمون وجاوزوا رحالهم وأبو عقيل واهن من جرحه سمع معن بن عدي يصيح‏:‏ يا للأنصار اللّه الله والكرة على عدوكم‏.‏

قال عبد اللّه بن عمر‏:‏ فنهض أبو عقيل يريد قومه فقلت‏:‏ ما فيك قتال قال‏:‏ قد نوه المنادي باسمي‏.‏

قال ابن عمر فقلت‏:‏ إنما يقول يا للأنصار ولا يعنى الجرحى قال أبو عقيل‏:‏ أنا رجل من الأنصار وأنا أجيبه ولو حبوًا قال ابن عمر‏:‏ فتحزم أبو عقيل وأخذ السيف بيده اليمنى مجردًا ثم جعل ينادي‏:‏ يا للأنصار كرة كيوم حنين‏.‏

فاجتمعوا رحمهم الله جميعًا يقدمون المسلمين دُرْبَةً دون عدوهم حتى أقحموا عدوهم الحديقة فاختلطوا واختلفت السيوف بيننا وبينهم‏.‏

قال ابن عمر‏:‏ فنظرت إلى أبي عقيل وقد قطعت يده المجروحة من المنكب فوقعت بالأرض وقتل عدو اللهّ مسيلمة‏.‏

قال ابن عمر‏:‏ فوقعت على أبي عقيل وهو صريع بآخر رمق فقلت‏:‏ أبا عقيل فقال‏:‏ لبيك بلسان مُلْتَاث لمن الدبرة قال‏:‏ قلت‏:‏ أبشر قد قتل عدو اللهّ فرفع اصبعه إلى السماء فحمد اللهّ ومات رحمه اللّه‏.‏

قال ابن عمر‏:‏ فأخبرت عمر بعد أن قدمت خبره كله فقال‏:‏ رحمه اللّه ما زال يطلب الشهادة ويطلبها وإن كان ما علمت من خيِار أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم وقديم إسلامهم‏.‏

فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ولدت قبل النبوة بخمس سنين ومرضت بعد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مرضَاَ شديدًا فقالت لأسماء بنتَ عميس‏:‏ ألا ترين ما قد بلغت فأحمل على سرير ظاهر فقالت‏:‏ لا لعمري ولكن نعشًا كما يصنع الحبشة فقالت‏:‏ فأرينيه فأرسلت إلي جرائد رطبة فقطعت ثم جعلتها على السرير نعشَاَ فتبسمت فاطمة عليها السلام وما رئيت متبسمة إلا يومئذ وتوفيت ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من رمضان هذه السنة وهي بنت تسع وعشرين سنة وصلى عليها العباس ونزل في حفرتها هو وعلي والفضل‏.‏

وقال ابن عباس وعروة‏:‏ صلى عليها علي رضي اللّه عنه‏.‏

وقال الشعبي وإبراهيم‏:‏ صلى عليها أبو بكر رضي اللّه عنه ودفنت ليلًا‏.‏

معن بن عدي بن العجلان‏:‏ شهد العقبة مع السبعين وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين زيد بن الخطاب فقتلا جميعًا يوم اليمامة‏.‏

شهد معن بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولما توفي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بكى الناس وقالوا‏:‏ وددنا أنا متنا قبله نخشى أن نفتن بعد فقال معن‏:‏ لكني واللّه ما أحب أني مت قبله حتى أصدقه ميتًا كما صدقته حيًا‏.‏

نعمان بن عصر بن عبيد بن وائلة‏:‏ كذا قال الأكثرون‏:‏ عصر بكسر العين‏.‏

وقال هشام بن الكلبي‏:‏ عصر بفتح العين والصاد‏.‏

قال ابن عمارة‏:‏ اسمه لقيط بن عصر‏.‏

شهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقتل يوم اليمامة‏.‏

هشام بن عتبة بن ربيعة أبو حذيفة وقيل هشيم‏:‏ شهد بدرًا والمشاهد كلها وقتل يوم اليمامة‏.‏

 سنة اثنتي عشرة

فمن الحوادث فيها‏:‏

 مسير خالد إلى العراق وصلح الحيرة

لما فرغ خالد من أمر اليمامة كتب إليه أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه وهو مقيم ياليمامة‏:‏ إني قد وليتك حرب العراق فاجسر على من ثبت على إسلامه وقاتل أهل الردة ممن بينك وبين العراق من تميم وأسد وقيس وعبد القيس وبكر بن وائل ثم سر نحو فارس فادخل بهم العراق من أسفلها فابدأ بفرج الهند وهي يومئذ الأبلَّة وكان صاحبها بساحل أهل السند والهند في البحر وبساحل العرب في البر فسار في المحرم إلى أرض الكوفة وفيها المثنى بن حارثة الشيباني وجعل طريقه البصرة وفيها قطبة بن قتادة السدوسي‏.‏

قال الواقدي‏:‏ من الناس من يقول‏:‏ مضى خالد من اليمامة إلى العراق ومنهم من يقول‏:‏ رجع من اليمامة فقدم المدينة ثم سار إلى العراق فمر على طريق الكوفة حتى انتهى إلى الحيرة‏.‏

وروى ابن إسحاق عن صالح بن كيسان‏:‏ أن أبا بكر رضي اللّه عنه كتب إلى خالد يأمره أن يسير إلى العراق فمضى خالد يريد العراق حتى نزل بقُريات من السواد يقال لها‏:‏ بانِقْيا وبارُوسْما وألَيْس فصالحه أهلها وكان الذي صالحه عليها ابن صَلوبا وذلك في سنة اثنتي عشرة فقبل منهم خالد الجزية وكتب لهم كتابًا فيه‏:‏ ‏"‏ بسم اللّه الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد لابن صلوبا السَّواديّ ومنزله بشاطىء الفرات إنك آمن بأمان اللّه إذ حقن دمه بإعطاء الجزية وقد أعطيت عن نفسك وعن أهلك خَرْجك وجزيرتك ومن كان في قريتك ألف درهم فقبلتها منك ورضي من معي من المسلمين بها منك ولك ذمة اللّه وذمة محمد صلى الله عليه وسلم وذمة المسلمين على ذلك‏.‏

وشهد هشام بن الوليد‏.‏

ثم أقبل خالد بن الوليد بمن معه حتى نزل الحيرة فخرج إليه أشرافهم مع قبيصة بن إياس الطائي وكان أمَّره عليها كسرى بعد النعمان بن المنذر فقال له خالد ولأصحابه‏:‏ أدعوكم إلى اللّه وإلى الإسلام فإن أجبتم إليه فأنتم من المسلمين لكم ما لهم وعليكم ما عليهم فإن أبيتم فالجزية فإن أبيتم فقد أتيتكم بأقوام هم أحرص على الموت منكم على الحياة فنجاهدكم حتى يحكم اللّه بيننا وبينكم‏.‏

فقال له قبيصة بن إياس‏:‏ ما لنا بحربك من حاجة بل نقيم على ديننا ونعطيك الجزية فصالحهم على تسعين ألف درهم فكانت أول جزية وقعت بالعراق هي والقريات التي صالح عليها ابن صلوبا‏.‏

وقال هشام بن الكلبي‏:‏ إنما كتب أبو بكر إلى خالد وهو باليمامة أن يسير إلى الشام وأمره أن يبدأ بالعراق فيمر بها فأقبل خالد يسير حتى نزل النِّباج‏.‏

قال‏:‏ وقال أبو مخنف‏:‏ حدثني حمزة بن علي عن رجل من بكر بن وائل أن المثنى بن حارثة سار حتى قدم على أبي بكر رضي الله عنه فقال‏:‏ أمَرْنِي على مَنْ قِبَلي من قومي أقاتل من يليني من أهل فارس وأكفيك ناحيتي ففعل ذلك فأقبل يجمع قومه وأخذ يغير ناحية كسكر مرة وفي أسفل الفرات مرة ونزل خالد بن الوليد النباج والمثَنَّى بن حارثة بخَفَانَ معسكرة فكتب إليه خالد بن الوليد ليأتيه وبعث إليه بكتاب من أبي بكر رضي اللّه عنه يأمره فيه بطاعته فانقض إليه جوادًا حتى لحق به‏.‏

فأقبل خالد يسير فعرض له جابان صاحب ألّيْس فبعث إليه المثنى بن حارثة فقاتله فهزمه وقتل جُل أصحابه إلى جانب نهر فدعي نهر دم لتلك الوقعة وصالح أهل ألَّيْس وأقبل حتى دنا من الحيرة فخرجت إليه خيول آزاذبه صاحب خيل كسرى التي كانت في مسالح ما بينه وبين العرب فلقوهم بمجتمع الأنهار فتوجه إليهم المثنى بن حارثة فهزمهم الله‏.‏

ولما رأى ذلك أهل الحيرة خرجوا يستقبلونه ة فيهم عبد المسيح بن عمرو بن بُقيلة وهاني بن قبيصة فقال خالد لعبد المسيح‏:‏ من أثَرُك‏.‏

قال‏:‏ من ظهر أبي قال‏:‏ من أين خرجت قال‏:‏ من بطن أمي قال‏:‏ ويحك على أي شيء أنت‏.‏

قال‏:‏ على الأرض قال‏:‏ ويلك في أي شيء أنت‏.‏

قال‏:‏ في ثيابي قال‏:‏ ويحك تعقل‏.‏

قال‏:‏ نعم وأقيِّد قال‏:‏ إنما أسألك قال‏:‏ وأنا أجيبك قال‏:‏ أسلم أنت أم حرب‏.‏

قال‏:‏ بل سلم قال‏:‏ فما هذه الحصون التي أرى قال‏:‏ بنيناها للسفيه نحبسه حتى يجيء الحليم فينهاه قال خالد‏:‏ إني أدعوكم إلى الإسلام فإن أبيتم فالجزية وإن أبيتم قاتلتكم قالوا‏:‏ لا حاجة لنا في حربك فصالحهم على تسعين ومائة ألف درهم فكانت أول جزية حملت إلى المدينة من العراق‏.‏

وفي رواية أخرى‏:‏ أن عبد المسيح لما حضر عند خالد وجد معه شيئًا يقلبه في كفه فقال‏:‏ ما هذا قال‏:‏ سم قال‏:‏ وما تصنع به قال‏:‏ إن كان عندك ما يوافق قومي حمدت الله وقبلته وإن كانت الأخرى لم أكن أول من ساق إليهم ذلًا أشربه وأستريح من الحياة قال‏:‏ هاته‏.‏

فأخذه خالد وقال‏:‏ بسم اللهّ وباللّه رب الأرض والسماء الذي لا يضر مع اسمه شيء ثم أكله فجللته غشية ثم ضرب بذقنه صدره طويلًا ثم عرق وأفاق كأنما نشط من عقال فرجع ابن بُقَيلة إلى قومه فقال‏:‏ جئتكم من عند شيطان أكل سم ساعة فلم يضره فصانعوا القوم وادرؤوهم عنكم فإنهم مصنوع لهم فصالحوهم على مائة ألف درهم‏.‏

قال مؤلف الكتاب‏:‏ وهذا عبد المسيح هو ابن عمرو بن قيس بن حبان بن بقيلة واسم بقيلة ثعلبة وقيل‏:‏ الحارث وإنما سمي بقيلة لأنه خرج على قومه في بردين أخضرين فقالوا‏:‏ ما أنت إلا بقيلة‏.‏

وعاش عبد المسيح ثلاثمائة وخمسين سنة وكان نصرانيًا وخرج بعض أهل الحيرة يخط ديرًا في ظهرها فلما حفر وأمعن وجد كهيئة البيت ووجد رجلًا على سرير من زجاج وعند رأسه كتابة‏:‏ أنا عبد المسيح بن بقيلة ومكتوب بعده‏:‏ حلبت الدهر أشطره حياتي ونلتَ من المنى فوق المزيد # وكافحتَ الأمور وكافحتني ولم أجعل بمعضلة كؤود # وكدت أنال في الشرف الثريا ولكن لا سبيل إلى الخلود روى مجالد عن الشعبي‏:‏ أقرأني بنو بقيلة كتاب خالد إلى أهل المدائن‏:‏ من خالد بن الوليد إلى مرازبة أهل فارس سلام على من اتبع الهدى أما بعد فالحمد لله الذي سلب ملككم ووهن كيدكم وإنه من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم الذي له مالنا وعليه ما علينا أما بعد فإذا جاءكم كتابي هذا فابعثوا إلي بالرهُن بالتي هي أحسن واعتقدوا مني الذمة وإلا فو الذي لا إله غيره لأبعثن إليكم قومًا يحبون الموت كما تحبون الحياة‏.‏

فلما قرأوا الكتاب أخذوا يتعجبون وذلك في سنة اثنتي عشرة‏.‏

قال الشعبي‏:‏ ولما فرغ خالد من اليمامة كتب إليه أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ إن اللّه فتح عليك فعارق حتى تلقى عياضًا‏.‏

وكتب إلى عياض بن غنم وهو بين النباج والحجاز‏:‏ أن سر حتى تأتي المصَيخَ فابدأ بها ثم ادخل العراق من أعلاها وعارق حتى تلقى خالدًا‏.‏

واذَنَا لمن شاء بالرجوع ولا تستفتحا بمتكاره‏.‏

فلما أذنا للناس ارفضوا فاستمد خالد أبا بكر رضي الله عنه فأمده بالقعقاع بن عمرو التميمي وحده فقيل أتمده برجل واحد فقال‏:‏ لا يهزم جيش فيهم مثل هذا فأمد عياضًا بعبد بن عمرو الحميري وكتب إليهما أن استنفرا من قاتل أهل الردة ومن ثبت على الإسلام بعد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولا يغزون معكم أحد ارتد حتى أرى رأي فلم يشهد الأيام مرتد‏.‏

فقدم خالد الأبلة وحشر من بينه وبين العراق فلقي هرمز في ثمانية عشر ألفًا وكتب خالد إلى هرمز‏:‏ أما بعد وأسلم تسلم واعقد لنفسك ولقومك الذمة وأقرر بالجزية وإلا فلا تلومن إلا نفسك فقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة‏.‏

وقال المغيرة بن عيينة وهو قاضي الكوفة‏:‏ فرق خالد مخرجه من اليمامة إلى العراق جنده ثلاث فرق ولم يحملهم على طريق واحدة فسرح المثنى قبله بيومين ودليله ظفر وسرح عدي بن حاتم وعاصم بن عمرو ودليلهما مالك بن عباد وسالم بن نصر أحدهما قبل صاحبه بيوم وخرج ودليله رافع فوعدهم جميعًا الحفير ليجتمعوا به وليصادفوا عدوهم وكان فرج الهند أعظم فروج فارس شأنًا وأشده شوكة وكان صاحبه يحارب العرب في البر والهند في البحر‏.‏

ولما قدم كتاب خالد على هرمز كتب بالخبر إلى شيري بن كسرى وإلى أردشير بن شيري وجمع جموعه وتعجل وجعل على مجنبتيه قباز والنوشجان ونزلوا على الماء فجاء خالد فقال لأصحابه‏:‏ جالدوهم على الماء فليصيرن الماء لأصبر الفريقين وتنازل هرمز وخالد وانهزم أهل فارس وأفلت قباز والنوشجان‏.‏

وأول ملوك فارس قاتله المسلمون شيري بن كسرى وبعث خالد بالنفل إلى أبي بكر رضي اللّه عنه ومعه فيل فكان يطاف به في المدينة وكان أهل فارس يجعلون قلانسهم على قدر أحسابهم في عشائرهم فمن تم شرفه فقيمة قلنسوته مائة ألف وكان هرمز قد تم شرفه فنفل أبو بكر رضي الله عنه خالدًا قلنسوته وكانت مفصصة بالجوهر‏.‏

 وقعة المذار

وبعث شيري إلى هرمز قارن بن قريانس مددًا له فلما انتهى إلى المذار بلغته هزيمة القوم فعسكر هنالك واستعمل على مجنبته قباذ والنوشجان وقتل من فارس ثلاثون ألفًا سوى من غرق وأعطى خالد الأسلاب من سلبها وقسم الفيء وبعث ببقية الأخماس مع سعيد بن النعمان وكانت وقعة المذار في صفر سنة اثنتي عشرة‏.‏

 ذكر وقعة الولجة

وأتى الخبر أردشير فبعث الأندر في خلق كثير فلقوا خالدًا فاقتتلوا قتالًا شديدًا وكان لخالد كمين فخرج على القوم من وجهين فانهزمت صفوف الأعاجم وأخذوا عن بين أيديهم ومن خلفهم ومضى الأندر منهزمًا فمات عطشَاَ‏.‏

ثم إن النصارى وفارس اجتمعوا بأليس وقد وضعوا الأطعمة يأكلون فقال‏:‏ كلوا ولا تحفلوا بهم فعالجهم خالد فقاتلهم وقال‏:‏ اللهم إن لك عليَّ إن منحتني أكتافهم أن لا أستبقي منهم أحدًا قدرنا عليه حتى أجري نهرهم بدمائهم‏.‏

فمنحه اللهّ أكتافهم فأمر مناديه‏:‏ الأسر الأسر ولا تقتلوا إلا من امتنع فضرب أعناقهم في النهر فقيل‏:‏ لو قتل أهل الأرض لم تجر دماؤهم إن الدم لا تزيد على أن تترقرق أرسل عليه الماء تبر يمينك‏.‏

وكان قد صد الماء عن النهر فأعاده فجرى دمأ عبيطًا فسمي نهر الدم لذلك إلى اليوم‏.‏

وكانت على الماء أرحاء فطحنت قوت العسكر ثلاثة أيام بالماء الأحمر وبلغ القتلى سبعين ألفًا‏.‏

ووقف خالد على طعامهم فقال لأصحابه‏:‏ قد نفلتكم الطعام فكان من لا يعرف خبز الرقاق يقول‏:‏ ما هذه الرقاع البيض وجعل من يعرفها يقول‏:‏ هل سمعتم برقيق العيش هو هذا‏.‏

حديث أمغيشيا ونفذ خالد إلى أبي بكر رضي الله عنه بفتح أليس فلما فرغ خالد من وقعة أليس جاء إلى أمغيشيا وقد جلا أهلها فأمر بهدمها وكانت مصرًا كالحيرة فأصابوا منها ما لم يصيبوا مثله قط بلغ سهم الفارس ألف وخمسمائة سوى النفل الني نفله أهل البلاء‏.‏

ثم خرج آزاذبه وابنه نحو خالد في عسكر كبير فقتلهم خالد حتى أتى منهم وهرب آزاذبه ثم قصد خالد الحيرة وسار حتى نزل الخَورْنَق والنَّجَف وأدخل خالد الحيرة الخيل وأمر كل قائد من قواده بمحاصرة قصر من قصورها فكان ضرار بن الأزور محاصرًا للقصر الأبيض وفيه إياس بن قبيصة الطائي وكان ضرار بن الخطاب محاصرًا قصر العدَسيّين وفيه عدي بن عدي وكان ضرار بن مقرن المازني محاصرًا قصر بني مازن وفيه ابن أكال وكان المثنى محاصرًا قصر ابن بقيلة وفيه عمرو بن عبد المسيح فدعوهم جميعًا وأجلوهم يومًا فأبى أهل الحيرة ولجُّوا فناوشهم المسلمون‏.‏

فكان أول القواد أنشب القتال ضرار بن الأزور وصبح كل أمير ثغره فأكثروا فيهم القتل وصاحوا‏:‏ كفوا عنا حتى تبلغونا إلى خالد وكان أول من طلب الصلح عمرو بن عبد المسيح وهو بقيلة‏.‏

فلما وصل الرؤساء إلى خالد قال‏:‏ اختاروا واحدة من ثلاث‏:‏ أما أن تدخلوا في ديننا وأما الجزية وأما المناجزة فقد واللّه أتيتكم بأقوام أحرص على الموت منكم على الحياة قالوا‏:‏ بل الجزية فصالحوه على مائة ألف وتسعين ألفًا في كل سنة‏.‏

فبعث بالهدايا والفتح إلى أبي بكر رضي اللّه عنه فقبلها أبو بكر رضي اللّه عنه وكتب إلى خالد‏:‏ احسب لهم هداياهم من الجزية وصالحهم خالد في ربيع الأول سنة اثنتي عشرة‏.‏

ثم أنهم كفروا بعد موت أبي بكر رضي اللّه عنه فحاربهم المثنى ثم عادوا فكفروا فقتلهم سعد‏.‏

ولما فتح خالد الحيرة قام شويل فقلاك‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يذكر فتح الحيرة فسألته كرامة بنت عبد المسيح فقال‏:‏ ‏"‏ هي لك إذا فتحت عنوة ‏"‏‏.‏

وشهد له بذلك وعلى ذلك صالحهم فدفعها إليه وكان يهزأ بها دهرا فاشتد ذلك على أهلها فقالت‏:‏ ما تخافون على امرأة قد بلغت ثمانين سنة وإنما هذا رجل أحمق رآني في شبيبتي فظن أن الشباب يدوم فلما أخذها قالت‏:‏ ما أربك إلى عجوز كما ترى فَادِنِي فقال‏:‏ لست لأمِّ شوي إن نَقَصْتُك من ألف درهم فاستكثرت ذلك لتخدعه ثم أتته بها‏.‏

فلما سمع الناس ذلك عنفوه فقال‏:‏ ما كنت أرى عددًا يزيد على ألف‏.‏

ولما صالح خالد أهل الحيرة خرج إليه صلوبا صاحب قُسِّ النَّاطف فصالحه على بانِقْيا وَبَسْما على ألوف في كل سنة‏.‏

وبعث خالد بن الوليد عماله وبعث آخرين على ثغور ثم إن خالدًا كتب إلى أهل فارس وهم في المدائن مختلفون لموت أردشير وكتب كتابين‏:‏ كتابًا إلى الخاصة وكتابًا إلى العامة وقال لرجل‏:‏ ما اسمك قال‏:‏ مُرّة قال‏:‏ خذ هذا الكتاب فأت به أهل فارس لعل اللهّ أن يُمِرَّ عليهم غيشهم وقال لآخر‏:‏ ما اسمك قال‏:‏ هرقيل قال‏:‏ خذ هذا الكتاب وقال‏:‏ اللهم أرهق نفوسهم وكان في أحد الكتابين‏:‏ بسم اللّه الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس أما بعد فالحمد للّه الذي حلّ نظامكم ووهَن كيدكم وفرق كلمتكم ولو لم يفعل ذلك بكم كان شرًا لكم فادخلوا في أمرنا ندعكم وأرضكم ونجوزكم إلى غيركم وإلا كان ذلك وأنتم كارهون على أيدي قوم يحبون الموت كما تحبون الحياة ‏"‏‏.‏

وكان في الكتاب الآخر‏:‏ ‏"‏ بسم اللهّ الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس أما بعد فالحمد لله الذي فرق كلمتكم وفلّ حدّكم وكسر شوكتكم فاسلموا تسلموا وإلا فأدوا الجزية وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الخمر ‏"‏‏.‏

وكان أهل فارس لموت أردشير مختلفين في الملك وكانوا بذلك سنة والمسلمون يمخرون ما دون دجلة وليس لأهل فارس فيما بين الحيرة ودجلة أمر وأمر خالد رسوليه أن يأتياه بالخبر وأقام في عمله سنة ومنزله الحيرة ويصعد ويصوب وأهل فارس يخلعون ويملكون وذلك أن شيري بن كسرى قتل كل من كان يناسبه إلى كسرى بن قباذ ووثب أهل فارس بعده وبعد أردشير وبعد أردشير ابنه فقتلوا كل مَنْ بين كسرى بن قباذ وبين بهرام جور فبقوا لا يقدرون على من يملكونه ممن يجتمعون عليه‏.‏

واستقام لخالد من أسفل الفلاليج إلى أسفل السواد وفرق سواد الحيرة على جماعة من أصحابه وفرق سواد الأبُلَّة على جماعة من أصحابه‏.‏

 قدم خالد إلى الأنبار

فطاف يخندقهم وأنشب القتال وكان قليل الصبر عن القتال وتقدم إلى رماته فقال‏:‏ إني أرى أقوامًا لا علم لهم بالقتال فارموا عيونهم فرموا رشقًا واحدًا ففقئت ألف عين فسميت تلك الوقعة ذات العيون فأتى خالد أضيق مكان في الخندق برذايا الجيش فرماهم فيها فأفعمه ثم اقتحم الخندق فقهرهم‏.‏

وسميت الأنبار لأنه كان فيها أنابير الحنطة والشعير والقت والتبن وكان كسرى بن هرمز يرزق أصحابه منها وكان يسميها الأهراء في زمان يزدجرد بن سابور ثم صالح خالد من حولهم وبعث إليهم أهل كلواذى وكاتبهم على عيبته من وراء دجلة‏.‏

فصل خبر عين التمر ولما فرغ خالد من الأنبار استخلف عليها الزَبرْقان بن بدر وقصد عين التمر وكان بها مهران بن بهرام في جمع عظيم وعقة بن أبي عقة في جمعِ عظيم من العرب فقال عقة لمهران‏:‏ إن العرب أعلم بقتال العرب فدعنا وخالداَ فقال‏:‏ صدقتم أنتم أعلم فخدعه واتقى به فقالت الأعاجم‏:‏ ما حملك على هذا فقال‏:‏ إن كانت له فهي لكم وإن كانت الأخرى لم تبلغوا منهم حتى تهنوا فنقاتلهم وقد ضعفوا‏.‏

فالتقيا فحمل خالد فأخذ عقة أسيرًا وأسر أصحابه وهرب بعضهم فلما سمع مهران هرب بجنده وترك الحصن فاعتصم به قلال العرب فحاصرهم خالد حتى استنزلهم وضرب أعناقهم وعنق عقة وسبى منهم سبيًا كثيرًا ووجد في بيعتهم أربعين غلامًا يتعلمون الإنجيل عليهم باب مغلق فكسره عنهم وقسمهم في أهل البلاء منهم أبو زياد مولى ثقيف ونصير أبو موسى بن نصير وأبو عمرو جد عبد اللهّ بن عبد الأعلى الشاعر وسيرين أبو محمد بن سيرين وحمران مولى عثمان ومنهم ابن أخت النَّمِر ويسار مولى قيس بن مخرمة‏.‏

 فصل خبر دومة الجندل

ولما فرغ خالد من عين التمر خلف فيها عويمر بن الكاهن الأسلمي وخرج فلما بلغ دومة الجندل وكان عليها رئيسان أكيدر بن عبد الملك والجودي بن ربيعة فاختلفا فقال أكيدر‏:‏ أنا أعلم الناس بخالد لا يرى وجهه أحد إلا أنهزم فصالحوا فأبوا فقال‏:‏ لن أمالئكم على حربه وخرج فعارضه جند خالد فأخذوه فقتل ونجا خالد فنزل على دومة الجندل فخرج الجودي فقتل وتحصن أقوام بالحصن فلم يحملهم فقتل من تخلف وقلع باب الحصن فقتل وسبى خالد بنت الجودي وكانت موصوفة بالجمال وأقام خالد على دومة الجندل ورد الأقرع بن حابس إلى الأنبار فتحركت الأعاجم فكاتبهمِ عرب الجزيرة غضبا لعقة فخرج زَرْمهْر ومعه رُوزبه يريدان الأنبار وأتَّعدا حُصيداَ والخنافس فكتب الزبرقان وهو على الأنبار إلى القعقاع بن عمرو وهو يومئذ خليفة خالد على الحيرة فبعث القعقاع أعبد بن فدكي السعدي وأمره بالحصيد وبعث عروة بن الجعد البارقي وأمره بالخنافس فقتل زرمهر وروذبه وقتل من العجم مقتلة عظيمة وغنم المسلمون يوم حصيد غنائم كثيرة ت وأرز فلال حصيد إلى الخنافس فقصدهم ابن فدكي فهربوا إلى المُصَيخ‏.‏

قال عدي بن حاتم‏:‏ فبلغ الخبر خالدًا فقصدهم فقتلهم على المُصَيَّخ وإذا رجل يقال له‏:‏ حُرْقوص بن النعمان من عين النَمِر وإذا حوله بنوه وامرأته وإذا بينهم جفنة من خمر وهم عكوف يقولون له‏:‏ ومن يشرب هذه الساعة فقال‏:‏ اشربوا شرب وداع فما أرى أن تشربوا خمرًا بعدها هذا خالد بالعين وجنوده بحصيد فسبق إليه بعض الخيل فضربوا رأسه فإذا هو في جفنته وأخذنا بناته وقتلنا بنيه‏.‏

الثَّنيّ والزُّمَيْل ثم خرج خالد من المصيخ فبدأ بالثنيّ فبيت أهله وسبى وبعث بخمس اللّه إلى أبي بكر فاشترى عليَ بن أبي طالب رضي اللّه عنه الصهباء ابنة ربيعة بن بجير فاتخذها فولدت له وهي مكان بغداد اليوم وطعن خالد في البر وأراد أن يمضي من قراقر إلى سواء وهما ماءان لكلب فخاف الضلال فدلوه على رافع بن عمرو الطائي وكان هاديًا فقال لخالد‏:‏ إن الراكب المنفرد ليخاف على نفسه في هذه المفازة وما يسلكها إلا مغرور وأنت معك أثقال فقال‏:‏ لا بد أن أسلكها فقال رافعِ‏:‏ من استطاعِ منكم أن يصير أذن راحلته على ماء فليفعل ثم قال‏:‏ ابغني عشرين جزوراَ عظامًا سماناَ فأتى بها فأظمأهن حتى أجهدهن عطشَاَ ثم سقاهن من الماء حتى أرواهن ثم قطع مشافرهن ثم جمعهن حتى لا يحترزن فيفسد الماء في أجوافهن ثم قال لخالد‏:‏ سر فسار فكلما فزلوا نحر من تلك الجزور أربعًا فأخذ ما في بطونهن من الماء فسقاه الخيل وشرب الناس مما تزودوا حتى إذا كان صبيحة اليوم السادس نحر الجزر كلها قال خالد لرافع‏:‏ ويحك ما عندك قال‏:‏ أدركت الري إن شاء اللهّ‏.‏

وكان رافع يومئذ أرمد فقال‏:‏ انظروا هل ترون شجر عوسج على ظهر الطريق‏.‏

قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ إنا للّه وإنا إليه راجعون قد واللّه إذن هلكت وأهلكت لا أبالكم انظروا فما زالوا يطلبونها حتى رأوها فقال‏:‏ التمسوا قربها ماء فنظروا فوجدوا عينًا فشربوا وارتوا فقال رافع‏:‏ ما سلكتها قط إلا مع أبي وأنا غلام فقال بعض المسلمين في ذلك ارتجازًا‏:‏ لله در خالد أنى اهتدى خمسًا إذا ما ساره الجيش بكى ما سارها قبلك إنسان أرى عند الصباح يحمد القوم السرى قال‏:‏ فأغار خالد على ناس من ثعلب وبهرا وعلى غسان‏.‏

 فصل حديث الفراض

ثم قصد الفراض فحميت الروم واغتاظت واستعانوا بمن يليهم من مشايخ أهل فارس واستمدوا تغلبًا وإيادًا والنمر فأمدوهم ثم ناهدوا خالدًا حتى إذا صار الفراض بينهم قالوا‏:‏ إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم قال خالد‏:‏ بل اعبروا إلينا قالوا‏:‏ فتنحوا حتى نعبر فقال خالد‏:‏ لا نفعل ولكن اعبروا اسفل منا وذلك للنصف من ذي القعدة سنة اثنتي عشرة فقالت الروم وفارس بعضهم لبعض‏:‏ احتسبوا ملككم هذا رجل يقاتل عن دين واللّه لينصرن ولنخذلن فعبروا فقالت الروم‏:‏ امتازوا حتى نعرف الحسن والقبيح من أينا يجيء ففعلوا فقاتلوا قتالًا طويلًا ثم هزمهم اللّه وقال خالد للمسلمين‏:‏ ألحُّوا عليهم ولا ترفهوا عنهم‏.‏

فقتل يوم الفرار مائة ألف وأقام هناك بعد الوقعة عشرًا ثم أذن في القفول إلى الحيرة لخمس بقين من ذي القعدة ة وأمر عاصم بن عمرو أن يسير بهم وأمر شجرة بن الأغر أن يسوقهم وأظهر خالد أنه في الساقة‏.‏

 حجة خالد

وخرج خالد حاجًا من الفراض متكتمًا بحجه يعتسف البلاد حتى أتى مكة بالسمت فتأتى له من ذلك ما لم يتأت له بدليل وصار طريقاَ من طرق أهل الحيرة فلما علم أبو بكر بذلك عتب عليه وكانت عقوبته له أن صرفه إلى الشام وكتب إليه‏:‏ سر حتى تأتي بجموع المسلمين باليرموك وإياك أن تعود لما فعلت وأتم يتم اللّه لك ولا يدخلك عجب فتخسر وإياك أن تُدِلّ بعملك فإن الله له المن وهو ولي الجزاء‏.‏

وهذا كله كان في سنة اثنتي عشرة‏.‏

ومن الحوادث في هذه السنة

 عمرة أبي بكر رضي اللّه عنه

في رجب إن أبا بكر اعتمر في رجب فدخل مكة ضحوة فأتى منزله وأبو قحافة جالس على باب داره ومعه فتيان يحدثهم فقيل له‏:‏ هذا ابنك فنهض قائمًا وعجل أبو بكر أن ينيخ راحلته فنزل عنها وهي قائمة فجعل يقول‏:‏ يا أبه لا تقم ثم التزمه وقبل بين عينيه وهو يبكي فرحًا بقدومه وجاء إلى مكة عتاب بن أسيد وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام فسلموا عليه‏:‏ سلام عليك يا خليفة رسول اللّه وصافحوه جميعًا فجعل أبو بكر يبكي حين يذكرون رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وسلموا على أبي قحافة فقال أبو قحافة‏:‏ يا عتيق هؤلاء الملأ فأحسن صحبتهم فقال أبو بكر‏:‏ يا أبه لا حول ولا قوة إلا بالله طوقت عظيمًا من الأمر لا قوة لي به ولا يدان إلا باللّه وقال‏:‏ هل أحد يشتكي ظلامة فما أتاه أحد‏.‏

وأثنى الناس على واليهم‏.‏

 وفي هذه السنة

تزوج عمر بن الخطاب عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل‏.‏

وفيها‏:‏ تزوج علي عليه السلام أمامة بنت أبي العاص بن الربيع‏.‏

وفيها‏:‏ اشترى عمر أسلم مولاه‏.‏

 وفي هذه السنة

حج أبو بكر رضي اللهّ عنه بالناس واستخلف على المدينة عثمان بن عفان‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

بشير بن سعد بن ثعلبة‏:‏ شهد العقبة مع السبعين وبدرًا وأحدًا والمشاهد كلها مع رسول اللّه صلى الله عله وسلم‏.‏

وبعثه سرية إلى بني مرة بفدك وقتل يوم عين التمر مع خالد بن الوليد‏.‏

ثمامة بن حبيب أبو مروان وهو مسيلمة الكذاب‏:‏ وقد سبقت أخباره‏.‏

السائب بن عثمان بن مظعون‏:‏ هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية وكان من الرماة المذكورين وشهد بدرًا والمشاهد كلها وأصابه سهم يوم اليمامة فمات منه وهو ابن بضع وثلاثين سنة‏.‏

عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبي مالك‏:‏ شهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله ّصلى الله عليه وسلم وكان يغمه أمر أبيه وهو الذي قال له‏:‏ والله لا تدخل المدينة حتى تقر أنك أذل ورسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز‏.‏

واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله فلم يأذن له فمات أبوه فشهده رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم ووقف على قبره وعزا ابنه عنه‏.‏

وقتل عبد اللهّ بن عبد اللّه يوم جواثا في هذه السنة‏.‏

عكاشة بن محصن بن حرثان بن قيس بن مرة يكنى أبا محصن‏:‏ شهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أو بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرية إلى الغمر في أربعين رجلًا وقتل ببزاخة في هذه السنة وهو ابن خمس وأربعين سنة‏.‏

كناز بن الحصين بن يربوع بن طريف أبو مرثد الغنوي‏:‏ حليف حمزة بن عبد المطلب شهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وتوفي في هذه السنة وهو ابن ست وستين سنة‏.‏

مهشم بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف أبو العاص‏:‏ وأمه هالة بنت خويلد وخالته خديجة زوج رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

تزوج زينب ابنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام فولدت له عليًا وأمامة‏.‏

فتوفي علي صغيرًا وبقيت أمامة فتزوجها علي رضي اللهّ عنه بعد موت فاطمة عليها السلام‏.‏

وكانت زينب قد أسلمت وهاجرت وأبَى أبو العاص أن يسلم فشهد بدرًا مع المشركين فأسره عبد الله بن جبير بن النعمان فقدم في فدائه أخوه عمر بن الربيع وبعثت زينب بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهي يومئذ بمكة بقلادة لها كانت لخديجة من جزع ظفار وظفار جبل باليمن وكانت خديجة أدخلتها على أبي العاص بتلك القلادة فلما بعثت بها في فداء زوجها عرفها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ورق لها وذكر خديجة وترحم عليها وقال‏:‏ ‏"‏ إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها متاعها فعلتم ‏"‏ فأطلقوه وردوا القلادة وأخذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على أبى العاص أن يخلى سبيلها ففعل‏.‏

وفي رواية أن أبا العاص كان في عير لقريش فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في جماعة فأخذوها وأسروا أبا العاص فدخل أبو العاص على زينب امرأته واستجار بها فاجارته وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليه ما أخذ منه ورجعِ إلى مكة فأدى ما عليه من الحقوق ثم أسلم ورجع إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مسلمًا مهاجراَ فرد إليه زينب وتوفي أبو

 ثم دخلت سنة ثلاث عشرة

فمن الحوادث فيها

 تجهيز أبي بكر رضي اللّه عنه الجيوش إلى الشام

بعد منصرفه من حجه أن أبا بكر رضي الله عنه جهز الجيوش إلى الشام بعد منصرفه من حجه فبعث عمرو بن العاص قِبَلَ فلسطين وبعث أبا عبيدة بن الجراح ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وأمرهم أن يسلكوا التبوكية على البلقاء من علياء الشام‏.‏

وأول لواء عقده لواء خالد بن سعيد بن العاص ثم عزله قبل أن يسير وولى يزيد بن أبي سفيان فكان أول الأمراء الذين خرجوا إلى الشام وخرجوا في سبعة آلاف‏.‏

أخبرنا أبو منصور القزاز أخبرنا عبد الصمد بن المأمون أخبرنا ابن حيوية حدثنا البغوي حدَثنا أبو نصر بن الثمار حدَّثنا ابن الحكم عن نافع عن ابن عمر قال‏:‏ بعث أبو بكر رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان إلى الشام ومشى معهم نحوًا من ميلين فقيل‏:‏ يا خليفة رسول اللهّ لو انصرفت فقال‏:‏ لا إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ من أغبرت قدماه في سبيل اللهّ حرمها اللهّ على النار ‏"‏‏.‏

ثم بدا له الانصراف فقام في الجيش فقال‏:‏ أوصيكم بتقوى اللّه لا تعصوا ولا تغلوا ولا تجبنوا ولا تهدموا بيعة ولا تعرقوا نخلًا ولا تحرقوا زرعًا ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تقتلوا شيخًا كبيرًا ولا صبيًا صغيرًا وستجدون أقوامًا حبسوا أنفسهم للذي حبسوا أنفسهم له فذروهم وما حبسوا أنفسهم له وستردون بلدًا يغدو عليكم ويروح فيه ألوان الطعام فلا يأتيكم لون إلا ذكرتم اسم اللهّ عليه‏.‏

فصل في سبب عزل خالد بن سعيد وكان سبب عزل أبي بكر رضي اللّه عنه خالد بن سعيد ما روى ابن اسحاق عن عبد اللّه بن أبي بكر قال‏:‏ قدم خالد بن سعيد من اليمن بعد وفاة رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم فتربص ببيعة أبي بكر شهرين ولقي علي بن أبي طالب وعثمان رضي اللّه عنهما فقال‏:‏ يا بني عبد مناف لقد طبتم نفسًا عن أمركم يليه غيركم فأما أبو بكر فلم يجعلها عليه وأما عمر فاضطغنها عليه‏.‏

فلما أمره قال عمر‏:‏ أتؤمره وقد صنعِ ما صنع وقال ما قال فلم يزل به حتى عزله وأمَّر يزيد بن أبي سفيان‏.‏

ثم جعله رداَ بتيماء فأطاع عمر في بعض أمره وعصاه في بعض وقال له‏:‏ انزل بتيماء ولا تبرح وادع من حولك بالانضمام إليك ولا تقاتل إلا من قاتلك حتى يأتيك أمري‏.‏

فاجتمع إليه جموع كثيرة وبلغ الروم عظم ذلك العسكر فضربوا على العرب البعوث فكتب بالخبر إلى أبي بكر رضي اللّه عنه فكتب إليه أقدم تحجم واستنصر اللّه فسار إليهم خالد فتفرقوا وأعروا منزلهم فنزله ودخل عامة من كان يجمع له في الإسلام فسار بمن معه فأقبل إليه بطريق من بطارقة الروم يدعى باهان فهزمه وقتل جنده وكتب بذلك إلى أبي بكر الصديق واستمده‏.‏

ولما بلغ الخبر الروم وأحوال الأمراء المبعوثين كتبوا إلى هرقل فقال لأصحابه‏:‏ أرى من الرأي ألا تقاتلوا هؤلاء القوم وأن تصالحوهم فلم يقبلوا منه خرج هرقل حتى نزل بحمص فعبى لهم العساكر وبعث إلى تَذَارِق خرج في تسعين ألفًا فنزلوا على فلسطين وبعث جَرَجة بن وذار نحو يزيد ابن أبي سفيان فعسكر بإزائه وبعث إليه الدّراقص فاستقبل شرحبيل بن حسنة وبعث الفِيقار بن نَسْطُوس في ستين ألفَاَ نحو أبي عبيدة فهابهم المسلمون وكتب المسلمون إلى أبي بكر وإلى عمر‏:‏ ما الرأي فكتب عمر‏:‏ الرأي الاجتماع فاتعدوا باليرموك وجاء كتاب إلى أبي بكر رضي الله عنه بمثل رأي عمر واجتمعوا باليرموك فتكونوا عسكرًا واحدًا ولن يؤتى مثلكم من قلة الله ناصر من نصره وليصل كل رجل منكم بأصحابه‏.‏

فبلغ ذلك هرقل فكتب إلى بطارقته‏:‏ اجتمعوا لهم وانزلوا بالروم منزلًا واسع العَطَنُ واسع المطَّرَد ضيّق المهرَب وعلى الناس التَذارق وعلى المقدمة جرَجَه وعلى مجنَّبتيْه باهان والدراقص وعلى العرب الفيقار‏.‏

ففعلوا ونزلوا الواقوصة وهي على ضفة اليرموك وصار الوادي خندقًا لهم ونزل المسلمون بحذائهم على طريقهم وليس للروم طريق إلا عليهم فقال عمرو‏:‏ أبشروا حُصِرت الروم وقلما حاصر قوم قومًا إلا ظفروا بهم وأقاموا بذلك صفر من سنة ثلاث عشرة وشهري ربيع لا يقدرون من الروم على شيء ولا يخلصون إليهم ولا يحْرج الروم خرجه إلا أديل المسلمون عليهم‏.‏

وكتب أبو بكر إلى خالد أن يلحق بهم وأمره أن يخلف على العراق المثنى فوافاهم في ربيع وأمد هرقل الروم بباهان فطلع عليهم وقد قدم قدامه الشمامسة والرهبان والقسيسين يحضونهم على القتال فوافى قدومهم قدوم خالد فقاتل خالد باهان وقاتل الأمراء من يليهم فهزم باهان وتتابعت الروم على الهزيمة فاقتحموا خندقهم‏.‏

وكان المشركون مائتي ألف وأربعين ألفأ منهم ثمانون ألف مقيد وأربعون ألفًا مسلسل للموت وأربعون ألفًا مربَّطُون بالعمائم للموت وثمانون ألف فارس وثمانون ألف راجل‏.‏

وكان المسلمون سبعة وعشرين ألفًا إلى أن قدم خالد في تسعة آلاف فصاروا ستة وثلاثين ألفًا‏.‏

وقيل‏:‏ ستة وأربعين ألفًا فمرض أبو بكر رضي اللّه عنه وتوفي قبل الفتح بعشر ليال‏.‏

لما اجتمع القوم باليرموك أخذ الرهبان يحرضونهم وينعون إليهم النصرانية فخرجوا للقتال في جمادى الآخرة فقام خالد في الناس فقال‏:‏ اجتمعوا وهلموا فلنتعاور الإمارهَ فليكن عليها بعضنا اليوم والآخر غدا والآخر بعد غد حتى يتأمر كلكم ودعوني اليوم ألي أمركم فإنا إن رددنا القوم إلى خندقهم لم نزل نردهم وإن هزمونا لم نفلح بعدها‏.‏

فأمروه فخرجت الروم في تعبية لم ير الراءون مثلها وخرج خالد في ستة وثلاثين كردوسًا إلى أربعين فجعل القلب كراديس وأقام فيه أبا عبيدة وجعل الميمنة كراديس وعليها عمرو بن العاص وفيها شرحبيل بن حسنة وجعل الميسرة كراديس وعليها يزيد بن أبي سفيان وكان على كردوس من كراديس العراق القعقاع بن عمرو وعلى كردوس مذعور بن عدي وعياض بن غنم على كردوس وهاشم بن عتبة على كردوس وزياد بن حنظلة على كردوس وخالد في كردوسِ‏.‏

وعلى فالَة خالد بن سعيد دحية بن خليفة على كردوس وأبو عبيدة في كردوس وسعيد بن خالد على كردوس وأبو الأعور بن سفيان على كردوس وابن ذي الخمار على كردوس وفي الميمنة عمارة بن مخشي بن خويلد على كردوس وشرحبيل على كردوس ومعه خالد بن سعيد وعبد اللّه بن قيس على كردوس وعمرو بن عبسة على كردوس والسمط بن الأسود على كردوس وذو الكلاع على كردوس ومعاوية بن جديج على كردوس وجندب بن وكان قاضي القوم أبا الدرداء وكان القاص فيهم أبو سفيان بن حرب يسير فيهم فيقف على الكراديس فيقول اللّه الله إنكم أنصار الإسلام اللهم هذا يوم من أيامك اللهم انزل نصرك على عبادك‏.‏

وكان على الطلائع قباث بن أشيم وعلى الأقباض عبد اللّه بن مسود‏.‏

فشهد اليرموك ألف من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيهم نحو مائة من أهل بدر‏.‏

ونشب القتال والتحم الناس وتطارد الفرسان فإنهم على ذلك إذ قدم البريد من المدينة وهو محمية بن زُنَيم فأخذته الخيول وسألوه الخبر فلم يخبرهم لا بسلامة وأخبرهم عن أمدادة وإنما جاء بموت أبي بكر وتأمير أبي عبيدة فأبلغوه خالدًا فأسر إليه خبر أبي بكر رضي الله عنه فأخبره بما قال للجند فقال‏:‏ أحسنت وأخذ الكتاب وجعله في كنانته وخاف إن هو أظهر ذلك أن ينتشر عليه أمر الخيل فوقف محمية بن زُنَيم مع خالد‏.‏

أخبرنا ابن الحصين قال‏:‏ أخبرنا ابن المذهب قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن جعفر قال‏:‏ حدَثنا عبد اللّه بن أحمد قال‏:‏ حدَثني أبي قال‏:‏ حدَّثنا محمد بن جعفر قال‏:‏ حدَّثنا شعبة عن سماك قال‏:‏ سمعت عياض الأشعري قال‏:‏ شهدت اليرموك وعلينا خمسة أمراء‏:‏ أبو عبيدة بن الجراح ويزيد بن أبي سفيان وابن حسنة وخالد بن الوليد وعياض وليس عياض هذا بالذي حدث سماكًا عنه قال‏:‏ وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ إذا كان قتال فعليكم أبو عبيدة قال‏:‏ فكتبنا إليه‏:‏ إنه قد جاش إلينا الموت واستمدناه‏.‏

فكتب إلينا‏:‏ إنه قد جاءني كتابكم تستمدوني وإني أدلكم على من هو أعز نصرًا وأحضر جندًا اللّه عز وجل فاستنصروه فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد نصر يوم بدر في أقل من عدتكم فإذا أتاكم كتابي هذا فقاتلوهم ولا تراجعوني‏.‏

قال‏:‏ فقتلناهم فهزمناهم وقتلناهم أربع فراسخ‏.‏

قال‏:‏ وأصبنا أموالا فتشاوروا فأشار علينا عياض‏:‏ أن نعطى عن كل رأس عشرة قال‏:‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ من يراهني‏.‏

فقال شاب‏:‏ أنا إن لم تغضب‏.‏

قال‏:‏ فسبقه فرأيت عقيصتيِ أبي عبيدة تنفران وهو خلفه على فرس عربي‏.‏

قال علماء السير‏:‏ وخرج جَرَجة حتى كان بين الصفين ونادى‏:‏ ليخرج إليَّ خالد فخرج إليه خالد وأقام أبا عبيدة مكانه فوافقه بين الصفين حتى اختلفت أعناق دابتيهما وقد أمن أحدهما صاحبه فقال جرجة‏:‏ يا خالد أصدقني ولا تكذبني فإن الحر لا يكذب ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع المسترسل باللّه هل أنزل اللّه على نبيكم سيفًا من السماء فأعطاكه‏.‏

فلا تسله على أحد إلا هزمتهم‏.‏

قال‏:‏ لا قال‏:‏ فبم سميت سيف اللّه‏.‏

قال‏:‏ إن اللهّ عز وجل بعث فينا نبيه فدعانا فنفرنا منه ونأينا عنه ثم بعضنا صدقه وتابعه وبعضنا باعده وكذبه فكنت فيمن كذبه وقاتله ثم إن اللّه تعالى أخذ بقلوبنا فهدانا به فتابعناه‏.‏

فقال‏:‏ ‏"‏ أنت سيف من سيوف الله سله على المشركين لا ودعا لي بالنصر فسميت سيف اللّه بذلك فأنا من أشد المسلمين على المشركين‏.‏

فقال‏:‏ صدقتني يا خالد أخبرنىِ إلامَ تدعون قال‏:‏ إلى شهادةة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله والإقرار بما جاء به من عند اللّه قال‏:‏ فمن لم يُجبْكم قال‏:‏ فالجزية قال‏:‏ فإن لم يجبكم ويعطها قال‏:‏ نؤذنه بحرب ثم نقاتله قال‏:‏ فما منزلة الذي يدخل فيكم ويجيبكم إلى هذا الأمر اليوم قال‏:‏ منزلتنا واحدة قال‏:‏ هل لمن دخل فيه اليوم مثل ما لكم من الأجر‏.‏

قال‏:‏ نعم قال‏:‏ وكيف يساويكم وقد سبقتموه قال‏:‏ إنا دخلنا في هذا الأمر ونبينا حي بين أظهرنا يأتيه خبر السماء وحق لمن رأى ما رأينا أن يسلم ويتابع وإنكم أنتم لم تروا ما رآينا ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحُجَج فمن دخل في هذا الأمر بنية حقيقية كان أفضل فقال له‏:‏ صدقتني وقلب الترس ومال مع خالد وقال‏:‏ علمني الإسلام فمال به خالد إلى فسطاطه فشن عليه ماء ثم صلى به ركعتين وحملت الروم مع انقلابه إلى خالد وهم يرون أنها منه حيلة فأزالوا المسلمين عن مواقفهم إلا المحامية عليهم عكرمة والحارث بن هشام‏.‏

وركب خالد ومعه جرجة لم وتراجعت الروم إلى مواقفهم فزحف خالد حتى تصافحوا بالسيوف فضرب فيهم خالد وجرجة من لدن ارتفاع النهار إلى جنوح الشمس للغروب ثم أصيب جرجة ولم يصل صلاة سجد فيها إلا الركعتين اللتين أسلم عليهما وصلى الناس الظهر والعصر إيماء وتضعضع الروم ونهد خالد بالقلب حتى كان بين خيلهم ورجلهم وهربوا فانفرج المسلمون لهم فذهبوا في البلاد وأقبل المسلمون على الرّجْل ففضوهم فاقتحموا في خندقهم فتهافت عشرون ومائة ألف وكان الفيقار قد بعث رجلًا عربياَ فقال‏:‏ ادخل في هؤلاء القوم يومًا وليلة ثم ائتني بخبرهم فجاء فقال‏:‏ بالليل رهبان وبالنهار فرسان ولو سرق ابن ملكهم قطعوا يده ولو زنا رجم لإقامة الحق فيهم فقال‏:‏ لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها فلما أقبلوا تجلجل الفيقار وأشراف من الروم برانسهم ثم جلسوا وقالوا‏:‏ لا نحب أن نرى يوم السوء إذ لم نستطع أن نرى يوم السرور وإذ لم نستطع أن نمنع النصرانية فأصيبوا في تزملهم‏.‏

وقال عكرمة بن أبي جهل يومئذ‏:‏ قاتلت رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم في كل موطن وأفرُ منكم اليوم ثم نادى‏:‏ من يبايع على الموت فبايعه الحارث بن هشام وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم فقاتلوا قدّام فسطاط خالد حتى أثبتوا جميعًا جراحأ‏.‏

وأتى خالد بعد ما أصبحوا بعكرمة جريحًا فوضع رأسه على فخذه وبعمرو بن عكرمة فوضع رأسه على ساقه وجعل يمسح عن وجوههما ويقطر في حلوقهما الماء ويقول‏:‏ كلا زعم ابن الحنتمة أنا لا نستشهد‏.‏

وأصيبت يومئذ عين أبي سفيان فأخرج السهم من عينه أبو حثمة‏.‏

وقاتل النساء يومئذ منهن جويرية بنت أبي سفيان‏.‏

وقتل الله أخا هِرَقْل وأخذ التَّذارق وانتهت الهزيمة إلى هرقل وهو دون مدينة حِمْص فارتحل فجعل مدينة حمص بينه وبينهم‏.‏

 كانت وقعة اليرموك

في سنة ثلاث عشرة وكانت أول فتح فتح على عمر بعد عشرين ليلة من متوفى أبي بكر رضي اللّه عنه‏.‏وأما الواقدي فإنه يقول في سنة خمس عشرة‏.‏

أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك ومحمد بن ناصر قالا‏:‏ أخبرنا ابن المبارك بن عبد الجبار أخبرنا أبو محمد الجوهري أخبرنا أبو عمرو بن حيوية أخبرنا أبو بكر بن الأنباري قال‏:‏ حدَّثني أبي قال‏:‏ حدَثنا أحمد بن عبيد عن ابن الأعرابي قال‏:‏ استشهد باليرموك عكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام وجماعة من بني المغيرة فأتوا بماء وهم صرعى فتدافعوه حتى ماتوا ولم يذوقوه‏.‏

أتي عكرمة بالماء فنظر إلى سهيل بن عمرو ينظر إليه فقال‏:‏ ابدأوا بذا فنظر سهيل إلى الحارث بن هشام ينظر إليه فقال‏:‏ ابدأوا بذا فماتوا كلهم قبل أن يشربوا فمر بهم خالد فقال‏:‏ بنفسي أنتم‏.‏

كذا في هذه الرواية عن ابن الأعرابي‏.‏

فأما عكرمة فاستشهد وأما الحارث وسهيل فاستشهدا بعد ذلك بزمان‏.‏

قال علماء السير‏:‏ وأتى خالد دمشق فجمع له صاحب بصرى فسار إليه هو وأبو عبيدة فظفروا بالعدو وطلب العدو الصلح فصولحوا على كل رأس دينار في كل عام وجريب حنطة ثم رجع العدو على المسلمين فتوافت جنود المسلمين والروم بأجنادين فالتقوا يوم السبت لليلتين بقيتا من جمادى الأولى فظهر المسلمون على المشركين وقتل خليفة هرقل في رجب‏.‏وكان من الحوادث في هذه السنة وقعة جرت بالعراق بعد مجيء خالد إلى الشام أنه استقام أمر فارس على شَهْرَبَراز بن أردشير بن شهريار فوجه إلى المثنى الذي استخلفه خالد على العراق جندًا عظيمًا عليهم هُرْمُز بن جاذوَيْه في عشرة آلاف ومعه فيل وكتب مسالح المثنى إليه بإقبال العدو فخرج المثنى من الحيرة نحوه وضم إليه المساِلح وأقام ببابل وأقبل هرمز بن جاذوية وكتب إلى المثنى‏:‏ إني قد بعثت إليك جنداَ من وخش أهل فارس إنما هم رعاة الدجاج والخنازير فلست أقاتلكم إلا بهم‏.‏

فأجابه المثنى‏:‏ إن الذي يدل عليه الرأي أنكم اضطررتم إلى ذلك فالحمد للّه الذي رد كيدكم إلى رعاة الدجاج والخنازير‏.‏

فجزع أهل فارس من كتابه وقالوا‏:‏ جرأت علينا عدونا‏.‏

فالتقوا ببابل فاقتتلوا قتالًا شديدًا ثم أن ناسًا من المسلمين قصدوا الفيل وقتلوه فانهزم أهل فارس واتبعتهم المسلمون يقتلونهم ومات شهربراز حين انهزم هرمز بن جاذوية‏.‏

ثم اجتمع أهل فارس على دُخْت زنان ابنة كسرى فلم ينفذ لها أمرٌ فَخُلِعَتْ‏.‏

ومُلِّكَ سابور بن شهربراز وقام بأمره الفَرُّ خزاذ بن البِنْدوان فسأله أن يزوجه آزَرْمِيدُخْت بنت كسرى ففعل فغضبت من ذلك وقالت‏:‏ يا ابن عم أتزوجني عبدي‏.‏

فقال‏:‏ استحي من هذا الكلام ولا تعيديه فإنه زوجك‏.‏فشكت إليه الذي تخاف فقال لها‏:‏ قولي له ليقل له فليأتك فأنا أكفيكه‏.‏

فلما كانت ليلة العرس أقبل الفرخزاذ حتى دخل فثار به سياوَخْش فقتله ومن معه ثم نهد بها إلى سابور فحضرته ثم دخلوا عليه فقتلوه‏.‏

وملكت آزر ميدختَ بنت كسرى وأبطأ خبر المسلمين على أبي بكر رضي اللهّ عنه فخلف المثنى على المسلمين بشير بن الخصاصية فخرج إلى أبو بكر رضي اللّه عنه ليخبره خبر المسلمين والمشركين ويستأذنه في الاستعانة بمن ظهرت توبته وندمه من أهل الردة فقدم المدينة وأبو بكر رضي اللّه عنه مريض فقال لعمر‏:‏ إني أرجو أن أموت من يومي هذا فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى وإن تأخرت إلى الليل فلا تصبحن حتى تندب الناس معه ولا تشغلنكم مصيبة عن دينكم وقد رأيتني متوفى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وما صنعت‏.‏

فمات أبو بكر رضي اللّه عنه وندب عمر الناس مع المثنى‏.‏

 ومن الحوادث في هذه السنة مرض أبي بكر رضي اللّه عنه

وحدث في مرضه أنه عقد الخلافة من بعده لعمر رضي الله عنهما‏.‏

ولما أراد ذلك دعا عبد الرحمن بن عوف فقال‏:‏ أخبرني عن عمر بن الخطاب فقال‏:‏ هو والله أفضل من رأيك فيه من رجل ولكن فيه غلظة فقال أبو بكر‏:‏ ذاك لأنه يراني رقيقًا ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرًا مما هو عليه ثم دعا عثمان ابن عفان فقال‏:‏ أخبرني عن عمر فقال‏:‏ أنت أخبرنا به فقال‏:‏ على ذلك يا أبا عبد اللّه فقال عثمان اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته وأنه ليس فينا مثله فقال أبو بكر رضي اللّه عنه‏:‏ أيرحمك الله واللّه لو تركته ما عَدَوْتُكَ‏.‏

ثم قال له‏:‏ اكتب‏:‏ بسم اللّه الرحمن الرحيم‏.‏

هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجًا منها وأول عهده بالآخرة داخلًا فيها حين يؤمن الكافر ويوقن الفاجر ويصدق الكاذب إني استخلفت عليكم‏.‏

ثم أغشي عليه فكتب عثمان‏:‏ إني استخلف عليكم عمر بن الخطاب‏.‏

فلما أفاق أبو بكر قال‏:‏ إقرأ علي فقرأ عليه فكبر وقال‏:‏ أراك خِفْتَ أن يختلف الناس إن أفلتت نفسي في غشيتي قال‏:‏ نعم قال‏:‏ جزاك الله خيرًا عن الإسلام وأهله وأقرها أبو بكر رضي اللّه عنه وأمره فخرج على الناس بالكتاب فبايعوه لمن فيه قد علموا أنه عمر ودخل عليه قوم فقالوا‏:‏ ما تقول لربك إذا سألك عن استخلافك عمر وأنت ترى غلظته فقال‏:‏ أجلسوني تخوفوني خاب من تزود من أمركم بظلم أقول اللهم استخلفت عليهم خير أهلك‏.‏

ثم دعا عمر وأوصاه‏.‏

أخبرنا محمد بن أبي طاهر قال‏:‏ أخبرنا الجوهري قال‏:‏ أخبرنا أبو عمرو بن حيوية قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن معروف قال‏:‏ أخبرنا الحسين بن الفهم قال‏:‏ حدَّثنا محمد بن سعد قال‏:‏ أخبرنا عبد اللّه بن نمير قال‏:‏ حدَّثنا الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن عائشة قالت‏:‏ لما مرض أبو بكر مرضه الذي مات فيه قال‏:‏ انظروا ما زاد في مالي منذ دخلت الإمارة فابعثوا به إلى الخليفة من بعدي فإني قد كنت استصلحته جهدي وكنت أصيب من الودك نحوا مما كنت أصيب في التجارة قالت عائشة‏:‏ فلما مات نظرنا فإذا عبد نوبي كان يحمل صبيانه وإذا ناضح كان يسقي بستانًا له فبعثنا بهما إلى عمر قالت‏:‏ فأخبرني حربي يعني رسولي أن عمر بكى وقال‏:‏ رحمة الله على أبي بكر لقد أتْعَبَ مَنْ بَعْده تَعَبَاَ شَدِيدًا‏.‏

قال محمد بن سعد‏:‏ وأخبرنا عاصم بن عمر الكلابي قال‏:‏ حدَّثنا سلمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال‏:‏ أطفنا بغرفة أبي بكر الصديق في مرضه الذي قبض فيه فقلنا له‏:‏ كيف أصبح أو كيف أمسى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطًلع علينا اطلاعة فقال‏:‏ ألستم ترضون بما أصنع‏.‏

قلنا‏:‏ بلى قد رضينا قال‏:‏ وكانت عائشة هي تمرضه قال فقال‏:‏ أما إني قد كنت حريصًا على أن أوَفَر َللمسلمين فيئهم مع أني قد كنت أصبت من اللحم واللبن فانظروا إذا رجعتم ما كان عندنا فأبلغوه عمر‏.‏

قال‏:‏ فذاك حين عرفوا أنه استخلف عمر‏.‏

قال‏:‏ وما كان عنده دينار ولا درهم ما كان إلا خادم ولقْحة ومِحْلَب فلما رأى ذلك عمر يُحمَلُ إليه قال‏:‏ يرحم الله أبا بكر لقد أتْعَبَ مَنْ بَعدَه‏.‏

قال ابن سعد‏:‏ أخبرنا يزيد بن هارون قال‏:‏ أخبرنا ابن عون عن محمد قال‏:‏ توفي أبو بكر رضي اللّه عنه وعليه ستة آلاف درهم كان أخذها من بيت المال فلما حضرته الوفاة قال‏:‏ إن عمر لم يَدَعْني حتى أصبت من بيت المال ستة آلاف درهم وإن حائطي الذي بمكان كذا وكذا فيها فلما توفي ذكر ذلك لعمر فقال‏:‏ يرحم الله أبا بكر لقد أحب أن لا يدع لأحد بعده مقالًا وأنا والي الأمر من بعده وقد رددتها عليكم‏.‏

قال ابن سعد‏:‏ وأخبرنا عمرو بن عاصم قال‏:‏ حدثنا همام عن يحيى عن قتادة قال‏:‏ قال أبو بكر‏:‏ لي من مالي ما رضي ربي من الغنيمة فأوصى بالخمس‏.‏

قال ابن سعد‏:‏ وأخبرنا الفضل بن دكين قال‏:‏ حدَّثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت‏:‏ لما حضرت أبا بكر الوفاة جلس فتشهد ثم قال‏:‏ أما بعد يا بنية فإن أحب الناس غِنَى إليَّ بعدي أنت وإن أعز الناس عليَ فقرًا بعدي أنت وإني كنت نَحَلْتُكِ جداد عشرين وسقًا من مالي فوددت واللّه أنك حزتيه وأخذتيه فإنما هو مال الوارث وهما أخواك وأختاك‏.‏

قالت‏:‏ قلت‏:‏ هذان أخواي فمن أختاي قال‏:‏ ذو بطن ابنة خارجة فإني أظنها جارية‏.‏

قال ابن سعد‏:‏ وأخبرنا وكيع قال‏:‏ حدَثنا هشام عن أبيه عن عائشة قالت‏:‏ ما ترك أبو بكر دينارًا ولا درهمًا ضرب اللّه سكتة‏.‏

قال محمد بن سعد‏:‏ وأخبرنا الفضل بن دكين قال‏:‏ حدَّثنا مالك بن المغول عن أبي السفر قال‏:‏ مرض أبو بكر فقالوا‏:‏ ألا تدعو الطبيب فقال‏:‏ قد رآني فقال إني فعال لما أريد‏.‏

قال مؤلف الكتاب في سبب موته قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن اليهود سمته في حريرة أكل منها هو والحارث بن كلدة فأخذ منها الحارث لقمة ثم قال‏:‏ كف فقد أكلت طعامًا مسمومًا سم سنة فماتا جميعًا للسنة يوم مات أبو بكر‏.‏

وروى ابن سعد عن عبد العزيز بن عبد اللهّ الأويسي عن الليث بن سعد عن عقيل عن ابن شهاب‏:‏ أن أبا بكر والحارث بن كلدة كانا يأكلان حريرة أهديت لأبي بكر فقال الحارث‏:‏ ارفع يدك يا خليفة رسول اللّه واللهّ إن فيها لسم سنة وأنا وأنت نموت في يوم واحد‏.‏

فلم يزالا عليلين حتى ماتا في يوم واحد عند انتهاء السنة‏.‏

والقول الثاني‏:‏ ذكره الواقدي عن أشياخه‏:‏ أن أبا بكر رضي اللّه عنه اغتسل في يوم بارد فَحُمّ خمسة عشر يومًا فكان لا يخرج إلى الصلاة وأمر عمر أن يصلي بالناس وكان عثمان الزمهم له في مرضه‏.‏

روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت‏:‏ دخلتَ على أبي فأثبت الموت فيه فبكيت ثم قلت‏:‏ مَنْ لا يَزَالُ دَمْعُه مقنًعًا فَإِنَه لاَ بُد مَرةً مَدْفُونُ فقال أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ ليس كما قلت بل‏:‏ ‏"‏ وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ أي يوم هذا‏.‏

قلت يوم الإثنين قال‏:‏ فإني أرجو من الله فيما بيني وبين الليل فلم يتوف حتى أمسى من تلك الليلة‏.‏

قالت‏:‏ ثم دفن قبل أن يصبح‏.‏

قالت‏:‏ ثم قال‏:‏ في كم كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت‏:‏ فيِ ثلاثة أثواب بيض يمانية‏.‏

قالت فنظر إلى ثوب كان عليه يمرض فيه فيه درع زعفران أو مشق فقال‏:‏ اغسلوا هذا وزيدوا عليه ثوبين وكفنوني قلت‏:‏ إن هذا خلق قال‏:‏ إن الحي أحق بالجديد وإنما هو للمُهْلة يعني الصديد‏.‏

قالت‏:‏ فغسلناه وكفناه فيه‏.‏

 توفي أبو بكر

في مساء ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء ودفن ليلة الثلاثاء لثمان ليال بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة فكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال‏.‏

وقال أبو معشر‏:‏ أربعة أشهر إلا أربع ليال وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة وغسلته امرأته أسماء بنت عميس أوصاها بذلك فقالت‏:‏ لا أطيق فقال‏:‏ يعينك عبد الرحمن‏.‏

ولما توفي حمل على السرير الذي حمل عليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وصلى عليه عمر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بين القبر والمنبر وكبر عليه أربعًا ودخل قبره عمر وعثمان وطلحة وعبد الرحمن بن أبي بكر وكان قد أوصى أن يدفن إلى جنب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فحفر له فجعل رأسه عند كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وألصقوا اللحد باللحد‏.‏

قال محمد بن سعد‏:‏ أخبرنا محمد بن عمر قال‏:‏ حدَثني ربيعة بن عثمان عن عامر بن عبد اللّه بن الزبير قال‏:‏ رأس أبي بكر عند كتفي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ورأس عمر عند حقوي أبي بكر‏.‏

ولما توفي أبو بكر رضي الله عنه نعي إلى أبيه أبي قحافة فقال‏:‏ رَزْءٌ جليل وورث أبو قحافة السدس من ماله وقال‏:‏ قد رددت ذلك على ولد أبي بكر رضي اللهّ عنه‏.‏

ومن الحوادث في هذه السنة خلافة عمر رضي اللّه عنه ‏.‏

 باب خلافة عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه

 ذكر نسبه

هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح لم بن عبد اللهّ بن قرط رزاح بن عدي بن كعب ويكنى أبا حفص‏.‏

وأمه حنتمة بن هاشم بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم‏.‏

وكانت إليه السفارة فيِ الجاهلية والمنافرة إن وقعت حرب من قريش أو من غيرهم بعثوه سفيرًا وإن فاخرهم مفاخر بعثوه منافرًا ورضوا به‏.‏

 ذكر صفته

كان أبيض طوالأ تعلوه حمرة أصلع أشب يخضب بالحناء والكتم وكان نقش خاتمه‏:‏ ‏"‏ كفى بالموت واعظًا يا عمر ‏"‏‏.‏

 ذكر أزواجه وأولاده

كان له من الولد عبد اللّه وعبد الرحمن وحفصة وأمهم زينب بنت مظعون بن جبيب‏.‏

وزيد الأكبر ورقية وأمهم أم كلثوم بنت علي بت أبي طالب وأمها فاطمة وفرق الإسلام بين عمر وبين أم كلثوم أبنت جرول وعاصم وأمه جميلة بنت ثابت بن أبي الأقلج وعبد الرحمن الأوسط وهو أبو المجبر وأمه لهَيَّة أم ولد وعبد الرحمن الأصغر وأمه أم ولد وفاطمة وأمها أم حكيم بنت الحارث بن هشام وزينب وأمها فكيهة أم ولد وعياض بن عمر وأمه عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل أخبرنا ابن ناصر أخبرنا المبارك بن عبد الجبار أخبرنا أبو محمد الجوهري أخبرنا أبو عمرو بن حيوية أخبرنا أبو بكر محمد بن خلف إجازة وحدَّثنا عنه محمد بن عبد اللّه بن الحارث حدَّثنا عبد اللّه بن محمد حدَّثنا الحكم بن موسى حدَّثنا يحيى بن حمزة عن زيد بن واقد قال‏:‏ حدَّثني بشير بن عبد اللّه قال‏:‏ كانت تحت عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه امرأة تسمى عاصية فسماها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جميلة وكانت امرأة جميلة وكان عمر يحبها وكان عمر إذا خرج إلى الصلاة مشيت معه من فراشها إلى الباب فإذا أراد الخروج قبلته ثم مضى فرجعت إلى فراشها‏.‏

 ذكر إسلام عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه

أخبرنا محمد بن عبد الباقي قال‏:‏ أخبرنا الحسن بن علي الجوهري قال‏:‏ أخبرنا أبو عمرو بن حيوية قال‏:‏ أخبرنا أبو الحسن بن معروف قال‏:‏ أخبرنا الحسين بن الفهم قال‏:‏ أخبرنا محمد بن سعد قال‏:‏ حدَّثنا إسحاق بن يوسف الأزرق قال‏:‏ حدَّثنا القاسم بن عثمان البصري عن أنس بن مالك قال‏:‏ خرج عمر متقلدًا بسيفه - أو قال‏:‏ بالسيف فلقيه رجل من بني زهرة فقال‏:‏ إلى أين تعمد يا عمر‏.‏

قال‏:‏ أريد أن أقتل محمدًا قال‏:‏ وكيف تأمن في بني هاشم وبني زهرة وقد قتلت محمدًا‏.‏

قال‏:‏ فقال عمر‏:‏ ما أراك إلا قد صبوت وتركت دينك الذي أنت عليه قال‏:‏ أفلا أدلك على العجب يا عمر إن ختنك وأختك قد صبوا وتركا دينك الذي أنت عليه‏.‏

قال‏:‏ فمشى عمر ذامرًا حتى أتاهما وعندهما رجل من المهاجرين يقال له خباب‏.‏

قال‏:‏ فلما سمع خباب حس عمر توارى في البيت فدخل فقال‏:‏ ما هذه الهينمة التي سمعتها عندكم‏.‏

وكانوا يقرأون طه فقالا‏:‏ ما عدا حديثا تحدثناه بيننا قال‏:‏ فلعلكما قد صبوتما‏.‏

قال‏:‏ فقال له ختنه‏:‏ أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك‏.‏

قال‏:‏ فوثب عمر على ختنه فوطئه وطئًا شديدًا فجاءت أخته فدفعته عن زوجها فنفحها بيده نفحة فدمى وجهها فقالت وهي غضبى‏:‏ يا عمر إن كان الحق في غير دينك اشهد أن لا إله إلا اللّه واشهد أن محمدًا رسول اللّه‏.‏

فلما يئس عمر قال‏:‏ اعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرأه قال‏:‏ وكان عمر يقرأ الكتب فقالت أخته‏:‏ إنك رجس ولا يمسه إلا المطهرون فقم فاغتسل وتوضأ‏.‏

قال‏:‏ فقام عمر فتوضأ ثم أخذ الكتاب فقرأ‏:‏ ‏{‏طه‏}‏ وحتى انتهى إلى قوله‏:‏ ‏{‏إنني أنا اللّه لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري‏}‏ طه 1 - 14‏.‏

قال‏:‏ فقال عمر‏:‏ دلوني على محمد‏.‏

فلما سمع خباب قول عمر خرج من البيت فقال‏:‏ أبشر يا عمر فإني أرجو أن تكون دعوة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لك ليلة الخميس‏:‏ لا اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الدار التي في أصل الصفا‏.‏

فانطلق عمر حتى أتى الدار قال‏:‏ وعلى باب الدار حمزة وطلحة وأناس من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فلما رأى حمزة وَجَلَ القوم من عمر قال حمزة‏:‏ نعم فهذا عمر فإن يرد اللّه بعمر خيرًا يسلم ويتبع النبي صلى الله عليه وسلم وإن يرد غير ذلك يكن قتله علينا هينًا‏.‏

قال‏:‏ والنبي صلى الله عليه وسلم داخلٌ يوحى إليه قال‏:‏ فخرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتى أتى عمر فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف فقال‏:‏ ‏"‏ ما أنت منتهيًا يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة‏.‏

‏"‏ اللهم هذا عمر بن الخطاب اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ فقال عمر‏:‏ أشهد أنك رسول الله فأسلم وقال‏:‏ اخرج يا رسول اللّه‏.‏

قال محمد بن سعد‏:‏ وأخبرنا محمد بن عمر قال‏:‏ حدَّثنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين قال‏:‏ وحدثني معمر عن الزهري قالا‏:‏ أسلم عمر بعد أن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم وبعد أربعين أو نيف وأربعين من رجال ونساء قد أسلموا قبله‏.‏

وقد كان رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم قال بالأمس‏:‏ اللهم أيد الإسلام بأحب الرجلين إليك‏:‏ عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام فلما أسلم عمر نزل جبريل فقال‏:‏ يا محمد لقد استبشر أهل السماء بإسلام عمر‏.‏

قال محمد بن سعد أخبرنا محمد بن عمر قال‏:‏ وحدَثنا محمد بن عبد اللهّ عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ أسلم عمر بعد أربعين رجلًا وعشر نسوة فما هو إلا أن أسلم عمر فظهر الإسلام بمكة‏.‏

قال محمد بن عمر‏:‏ وحدَّثني علي بن محمد عن عبيد الله بن سلمان الأغر عن أبيه عن صهيب بن سنان قال‏:‏ لما أسلم عمر ظهر الإسلام ودعي إليه علانية وجلسنا حول البيت حِلَقًا وطفنا بالبيت وانتصفنا ممن غلظ علينا ورددنا عليه بعض ما يأتي به‏.‏

قال علماء السير‏:‏ أسلم عمر في السنة السادسة من النبوة وهو ابن ست وعشرين سنة وشهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي بكر وقيل بينه وبين عويم بن ساعدة‏.‏

لما ولي الخلافة قال‏:‏ ورب الكعبة لأحملنهم على الطريق‏.‏

أخبرنا محمد بن الحسين وإسماعيل بن أحمد أخبرنا ابن النقور أخبرنا المخلص حدَّثنا أحمد بن عبد الله حدَّثنا شعيب عن محمد بن عبد اللهّ عن أبي عثمان بن مكنف قال‏:‏ سُلم على عمر في صدر إمارته‏:‏ يا خليفة خليفة رسول اللّه فجمع الناس بعد وقال‏:‏ إني أراكم لمن بعدكم خير من رأيهم لأنفسهم وإني أخاف أن يلحدوا في هذا الاسم أنتم المؤمنون وأنا أميركم فقالوا‏:‏ يا أمير المؤمنين فقبلت‏.‏

 ذكر وصيته لعماله وتعاهده إياهم

قال صالح بن كيسان‏:‏ أول كتاب كتبه عمر حين ولي إلى أبي عبيدة يوليه على جند خالد‏:‏ أوصيك بتقوى اللّه الذي يبقى ويفنى ما سواه الذي هدانا من الضلالة وأخرجنا من الظلمات إلى النور‏.‏

وقد استعملتك على جند خالد بن الوليد فقم بأمرهم الذي يحق عليك لا تقدم المسلمين إلى هلكة رجاء غنيمة ولا تنزلهم منزلًا قبل أن تستزيده لهم وتعلم كيف مألاه ولا تبعث سرية إلا في كثف من الناس وإياك وإلقاء المسلمين في الهلكة وقد أبلاك اللّه بي وأبلاني بك فغمض بصرك عن الدنيا وإياك أن تهلكك كما أهلكت من كان قبلك فقد رأيت مصارعهم‏.‏

أخبرنا محمد بن الحسين وإسماعيل بن أحمد قالا‏:‏ أخبرنا ابن النقور أخبرنا المخلص أخبرنا أحمد بن عبد اللّه أخبرنا السري بن يحيى أخبرنا شعيب حدَّثنا سيف عن عبدة بن معتب عن إبراهيم النخعي قال‏:‏ لما ولي عمر رضي اللّه عنه قال لعلي رضي اللّه عنه‏:‏ اقض بين الناس وتجرد للحرب‏.‏أخبرنا محمد بن الحسين وإسماعيل بن أحمد وحدَّثنا سيف عن محمد بن عبد اللّه عن أبي عثمان قال‏:‏ كتب عمر إلى القضاة مع أول قيامه‏:‏ أن لا تبتوا القضاء إلا عن ملأ فإن رأي الواحد يقصر إذا استبد ويبلغ إذا استشار والصواب مع المشورة‏.‏

وقال‏:‏ يا معشر العرب إنكم كنتم أذل أمة وأشقاها حتى أعزكم اللّه بالإسلام فكنتم خير أمة أخرجت للناس فلا تطلبوا العزة بغيره فتذلوا‏.‏

أخبرنا محمد بن الحسين وإسماعيل بن أحمد قالا‏:‏ أخبرنا ابن النقور أخبرنا المخلص أخبرنا أحمد بن عبد الله حدَّثنا السري بن يحيى حدَّثنا شعيب عن الربيع وأبي عثمان وأبي الحارثة وأبي المجالد بإسنادهم قالوا‏:‏ كان عمر بن الخطاب إذا بعث عماله يشترط عليهم‏:‏ أن لا تتخذوا على المجالس التي تجلسون فيها للناس بابًا ولا تركبوا البراذين ولا تلبسوا الثياب الرقاق ولا تأكلوا النقي ولا تغيبوا عن صلاة الجماعة ولا تطمعوا فيكم السعاة‏.‏

فمر يومًا في طريق من طرق المدينة وفي ناحية منها رجل يسأل فقال‏:‏ يا عمر تستعمل العمال وتعهد إليهم عهدك ثم ترى أن ذلك قد أجزاك كلا واللهّ إنك لمأخوذ بذا لم تعاهدهم قال‏:‏ وما ذلك‏.‏

قال‏:‏ عياض بن غنم يلبس اللين ويفعل ويفعل فقال‏:‏ أساع قال‏:‏ بل مؤدي الذي عليه فبعث إلى محمد بن مسلمة أن الحق بعياض بن غنم فآتني به كما تجده فانتهى إلى بابه وإذا عليه بواب فقال له‏:‏ قل لعياض على الباب رجل يريد أن يلقاك قال‏:‏ ما تقول‏.‏

قال‏:‏ قل له ما أقول لك‏.‏

فذهب كالمتعجب فأخبره فعرف عياض انه أمر حدث فخرج فإذا محمد بن مسلمة فرحب به وقال‏:‏ ادخل وإذا عليه قميص رقيق لين فقال‏:‏ إن أمير المؤمنين أمرني أن لا يفارق سوادي سوادك حتى أذهب بك كما أجدك ونظر في أمره فوجد الأمر كما حدثه السائل‏.‏

فلما قدم به على عمر وأخبره دعا بدراعة وكساء وحذاء وعصا وقال‏:‏ أخرجوه من ثيابه فأخرج منها وألبسه ذلك ثم قال‏:‏ انطلق بهذه الغنم فأحسن رعيتها وسقيها والقيام عليها واشرب من ألبانها واجتز من أصوافها وارفق بها فإن فضل شيء فأردده علينا‏.‏

فلما مضى رده وقال‏:‏ أفهمت قال‏:‏ نعم والموت أهون من هذا قال‏:‏ كذبت ولكن ترك الفجور أهون من هذا‏.‏

ثم قال له‏:‏ أرأيت لو رددتك أتراه يكون فيك خير قال‏:‏ نعم واللهّ يا أمير المؤمنين ولا يبلغنك عني شيء بعد هذا فرده ولم يبلغه عنه شيء إلا ما أحب حتى مات‏.‏

وحدَثنا سيف عن عبد الملك عن عاصم قال‏:‏ مات عياض بن غنم بعد أبي عبيدة فأمر عمر على عمله سعيد بن عامر بن جذيم فمات سعيد فأمر عمر مكانه عمير بن سعيد الأنصاري‏.‏

أخبرنا محمد بن أبي طاهر أخبرنا الجوهري أخبرنا ابن حيوية أخبرنا أحمد بن معروف أخبرنا الحسين بن الفهم حدَّثنا محمد بن سعد أخبرنا محمد بن عمر قال‏:‏ حدَثني عاصم بن عبد الله بن أسعد الجهني عن عمران بن سويد عن ابن المسيب عن عمر أنه قال‏:‏ أيما عامل لي ظلم أحدًا فبلغتني مظلمته فلم أغيرها فأنا ظلمته‏.‏

قال محمد بن سعد‏:‏ كان علي بن فضلة قديم الإسلام بمكة وهاجر إلى الحبشة ومات هناك أول من مات ممن هاجر وأول من ورث في الإسلام ورثه ابنه النعمان وكان عمر قد استعمل النعمان على ميسان وكان يقول الشعر فقال‏:‏ ألا هل أتى الحسناء أن حليلها بميسان يسقى في زجاج وحنتم إذا شئت غنتني دهاقين قربة ورقاصة يحثو على كل ميسم فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ولا تسقني بالأصغر المتثلم لعل أمير المؤمنين يسوؤه تنادمنا في الجوسق المتهدم فلما بلغ عمر قوله قال‏:‏ نعم والله إنه ليسوؤني من لقيه فليخبره أني قد عزلته‏.‏

فقدم عليه رجل من قومه فأخبره بعزله فقدمِ على عمر فقال‏:‏ والله ما صنعت شيئًا مه قلت ولكن كنت امرًا شاعرًا وجدت فضلًا من قول فقلت فيه الشعرم فقال عمر‏:‏ واللّه لا تعمل على عمل ما بقيت وقد قلت ما قلت‏.‏

أنبأنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة أخبرنا أبو طاهر المخلص أخبرنا أحمد بن سليمان بن داود حدَّثنا الزبير بن بكار قال حدَثني محمد بن الضحاك بن عثمان الحزامي عن أبيه قال‏:‏ لما بلغ عمر بن الخطاب هذا الشعر كتب إلى النعمان بن فضلة‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل الكتاب من اللّه العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب في الطول لا إله إلا هو إليه المصير‏.‏

أما بعد فقد بلغني قولك‏:‏ لعل أمير المؤمنين يسوؤه تنادمنا في الجوسق المتهدم وأيم اللّه إنه ليسوؤني وعزله فلما قدم على عمر بكته بهذا الشعر فقال له‏:‏ يا أمير المؤمنين ما شربتها قط وما ذاك الشعر إلا شيء طفح على لساني فقال عمر‏:‏ أظن ذلك ولكن لا تعمل لي على عمل أبدًا‏.‏

ذكر ورعه وزهده وخوفه

أخبرنا محمد بن الحسين وإسماعيل بن أحمد قالا‏:‏ أخبرنا ابن النقور أخبرنا المخلص أخبرنا أحمد بن عبد اللّه قال‏:‏ حدَّثنا السري بن يحيى حدَّثنا شعيب حدَّثنا سيف عن أشياخه قالوا‏:‏ نزل ملك الروم القرو وكاتب عمر رضي اللّه عنه وقاربه وسأله عن كلمة يجتمع فيها العلم كله فكتب إليه‏:‏ أحب للناس ما تحب لنفسك واكره لهم ما تكره لها تجمع لك الحكمة كلها وبعث إليه بقارورة قوال‏:‏ املأ لي هذه القارورة من كل شيء فملأها ماء‏.‏

وبعث أم كلثوم بنتَ علي إلى ملكة الروم بطيب وأحفاش من أحفاش النساء ودسته إلى البريد فأبلغه لها فجمعت امرأة هرقل نساءها وقالت‏:‏ هذه هدية امرأة ملك العرب وبنت نبيهم فكاتبيها وكافئيها وأهدت لها فيما أهدت عقدًا فاخرًا فلما جاء به البريد اُمره عمر بإمساكه ودعا بالصلاة جامعة فصلى بهم ركعتين وقال‏:‏ إنه لا خير في أمر أبرم من غير شورى فقولوا لي في هدية أهدتها أم كلثوم لامرأة ملك الروم فقال قائلون‏:‏ هو لها وقال آخرون‏:‏ قد كنا نهدي لنستثيب فقال‏:‏ ولكن الرسول رسول المسلمين والبريد بريدهم والمسلمون عظموها في صدرها فأمر بردها في بيت المال ورد عليها بقدر نفقتها‏.‏

أخبرنا محمد بن أبي طاهر أخبرنا الجوهري أخبرنا ابن حيوية أخبرنا ابن معروف حدَثنا الحسين بن الفهم حدَثنا محمد بن سعد أخبرنا الفضل بن دكين وعبد الوهاب بن عطاء قالا‏:‏ أخبرنا عبد اللّه العمري عن عبد الرحمن بن القاسم عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال‏:‏ صحبت عمر بن الخطاب من المدينة إلى مكة في الحج ثم رجعنا فما ضرب فسطاطًا ولا كان له بناء يستظل به إنما كان يلقي نطعًا أو كساء على سحره فيستظل تحته‏.‏

قال محمد بن سعد‏:‏ وحدَّثنا محمد بن عمر قال‏:‏ حدَّثني عثمان بن عبد اللّه بن زياد عن أيوب بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال‏:‏ مكث عمر زمانًا لا يأكل من بيت المال شيئًا حتى دخلت عليه في ذلك خصاصة وأرسل إلى أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاستشارهم فقال‏:‏ قد شغلتُ نفسي في هذا الأمر فما يصلح لي منه فقال عثمان بن عفان‏:‏ كل وأطعم قال‏:‏ وقال ذلك سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وقال لعلي‏:‏ ما تقول أنت في ذلك قال‏:‏ غداء وعشاء قال‏:‏ فأخذ عمر بذلك‏.‏

قال محمد بن عمر‏:‏ وحدًثني الجحاف بن عبد الرحمن عن عيسى بن معمر قال‏:‏ نظر عمر بن الخطاب عام الرمادة إلى بطيخة في يد بعض ولده فقال‏:‏ بخ بخ يا ابن أمير المؤمنين تأكل الفاكهة وأمًة محمد هَزْلَى فخرج الصبي هاربًا وبكى فأسكت عمر بعد ما سأل عن ذلك فقالوا‏:‏ اشتراها بكف من نوى‏.‏

قال محمد بن سعد‏:‏ وأخبرنا عفان قال‏:‏ حدَّثنا مهدي بن ميمون قال‏:‏ حدَثنا سعيد الجريري عن أبي عثمان النهدي قال‏:‏ رأيت عمر بن الخطاب يطوف بالبيت عليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة بعضها بأديم أحمر‏.‏

قال محمد بن سعد‏:‏ وأخبرنا يزيد بن هارون قال‏:‏ أخبرنا شعبة عن عاصم بن عبد الله بن عاصم عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال‏:‏ رأيت عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أخذ تبنة من الأرض فقال‏:‏ ليتني كنت هذه التبنة ليتني لم أخلق ليت أمي لم تلدني ليتني لم أكن شيئًا ليتني كنت نسيًا منسيًا‏.‏

قال محمد بن سعد‏:‏ حدَثنا محمد بن عمر قال‏:‏ حدَّثني عاصم بن عمر عن محمد بن عمر وعن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه عن عمر قال‏:‏ لو مات جمل ضائعًا على شط الفرات لخشيت أن يسألني اللّه عز وجل عنه‏.‏

قال ابن سعد‏:‏ وأخبرنا المعلى بن أسد قال‏:‏ حدَّثنا وهيب بن خالد عن يحيى بن سعيد عن سالم بن عبد اللّه‏:‏ ان عمر بن الخطاب كان يدخل يده في دبر البعير ويقول‏:‏ إني لخائف أن أسأل عما بك‏.‏

قال محمد بن سعد‏:‏ وأخبرنا عمرو بن عاصم الطلابي قال‏:‏ حدَّثنا سليمان بن المغيرة قال‏:‏ حدَّثنا حميد بن هلال قال‏:‏ حدَّثنا زهير بن حيان قال‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ دعاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأتيته فإذا بين يديه نطع عليه الذهب منثور فقال‏:‏ هلم فاقسم هذا بين قومك فاللّه أعلم حيث زوى هذا عن نبيه صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وأعطانيه لخير أعانيه أم لشر‏.‏

قال‏:‏ فأكببتَ عليه أقسمه فسمعت البكاء فإذا صوت عمر يبكي ويقول في بكائه‏:‏ والذي نفسي بيده ما حبسه عن نبيه صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر رضي الله عنه إرادة الشر بهما وأعطاه عمر إرادة الخير‏.‏

 اليرموك

وكانت بداية أمر اليرموك في حياة أبي بكر رضي اللّه عنه ثم ان المسلمين ذهبوا بعد اليرموك إلى أجنادين‏.‏

 ذكر وقعة قِحْل

ويقال‏:‏ فِحْل‏.‏

ولما فرغ المسلمون من أجنادين ساروا إلى فحل من أرض الأردن وقد اجتمع فيها جماعة من الروم قد نزلوا بيسان بين فلسطين والأردن وتبعوا أنهارها وهي أرض سبخة وكانت وحلًا فوحلت خيول المسلمين إلا أن اللّه تعالى سلمهم ونهضوا إلى الروم بفحل فاقتتلوا فهزمت الروم ودخل المسلمون فحل وذلك في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة على ستة أشهر من خلافة عمر رضي اللّه عنه‏.‏

وأقام تلك الحجة للناس عبد الرحمن بن عوف‏.‏

 ذكر فتح دمشق

كان عمر رضي الله عنه قد عزل خالد بن الوليد واستعمل أبا عبيدة على جميع الناس فالتقى المسلمون والروم حول دمشق فاقتتلوا قتالًا شديدًا ثم هزم الله الروم فدخلوا دمشق فتحصنوا بها فرابطهم المسلمون ستة أشهر حتى فتحوا دمشق وأعطوا الجزية وكان الصلح على يدي خالد وكان قد قدم على أبي عبيدة كتاب بتوليته وعزل خالد واستحى أبو عبيدة أن يقرئه الكتاب‏.‏

فلما فتحت أظهر أبو عبيدة ذلك وكان فتح دمشق في سنة أربع عشرة في رجب وكان حصارها ستة أشهر‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ بل كانت في سنة ثلاث عشرة‏.‏

وروى سيف عن أشياخه‏:‏ أن أبا عبيدة استخلف على اليرموك بشير بن كعب وخرج حتى نزل بالصُّفَر يريد اتباع الفالَّة فأتاه خبرهم أنهم أرَزوا إلى فِحْل‏.‏

وأتاه الخبر أن المدد قد أتى أهل دمشق من حمص فلم يدر أيبدأ بدمشق أم بفحل فكتب بذلك إلى عمر ولما جاء فتح اليرموك إلى عمر أقر الأمراء على ما استعملهم عليه أبو بكر رضي اللّه عنه إلا خالد بن الوليد فإنه ضمه إلى أبي عبيدة وعمرو بن العاص فإنه أمره بمعونة الناس حتى يصير الحرب إلى فلسطين ثم يتولى حربها‏.‏

وكتب إلى أبي عبيدة‏:‏ ابدأوا بدمشق فإنها حصن الشام وبيت مملكتهم واشغلوا عنكم أهل فحل بخيل تَكون بإزائهم‏.‏

فحاصروا دمشق نحوا من سبعين ليلة حصارًا شديدًا وقاتلوهم بالمجانيق فكان أبو عبيدة على ناحية ويزيد على ناحية وعمرو على ناحية‏.‏

وبعث أبو عبيدة ذا الكلاع وكان بين دمشق وحمص وهرقل يومئذ بحمص وقد استمدوه وجاءت خيل هرقل مغيثة لأهل الشام فأشجتها الخيول التي مع ذي الكلاع‏.‏

فأيقن أهل دمشق أن الأمداد لا تصل إليهم فأبلسوا فصعد قوم من أصحاب خالد بالأوهاق إلى السور فكبروا‏.‏

وجاء المسلمون إلى الباب وقتل خالد البوابين ودخل عنوة ودخل غير مصالحًا وكان صلح دمشق على المقاسمة في الدينار والعقار ودينار عن كل رأس وبعثوا بالبشائر إلى عمر‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ كانت وقعة فحل قبل دمشق وكانت في سنة ثلاث عشرة ذي القعدة‏.‏

 ذكر فتح بَيْسان

لما فرغ شرحبيل من وقعة فحل نَهَد في الناس ومعه عمرو إلى أهل بيسان فنزلوا عليهم فحاصروهم أيامًا ثم أنهم خرجوا عليهم فقاتلوهم فأناموا من خرج إليهم وصالحوا بقية أهلها فقبل ذلك على صلح دمشق‏.‏

 ذكر طبرية

وبلغ أهل طبرية الخبر فصالحوا أبا الأعور على أن يبلغهم شرحبيل ففعل فصالحوهم على صلح دمشق وتم صلح الأردن وتفرقت الأمداد في مدائن الأردن وقراها وكتب إلى عمر بالفتح‏.‏

 ذكر خبر المثنى بن حارثة وأبي عبيد بن مسعود

قد ذكرنا أن عمر أول ما ولي ندب الناس مع المثنى بن حارثة الشيباني إلى أهل فارس قبل صلاة الفجر من الليلة التي مات فيها أبو بكر رضي اللّه عنه ثم أصبح فبايع الناس وعاد فندب الناس إلى فارس وكان وجه فارس من أكره الوجوه إليهم وأثقلها عليهم لشدة سلطانهم وشوكتهم وقهرهم الأمم‏.‏

فلما كان اليوم الرابع عاد فندب الناس إلى العراق فقال‏:‏ إن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النجعة ولا يقوى عليه أهله إلا بذلك سيروا في الأرض التي وعدكم اللّه في الكتاب أن يورثكموها فإنه قال‏:‏ ‏{‏ليُظْهِرَهُ عَلَى الدِّين كُلِّه‏}‏ الفتح 28 واللّه مظهر دينه ومعز ناصره ومولي أهله مواريث الأمم‏.‏

أين عباد اللّه الصالحون‏.‏

وكان أول منتدب أبو عبيد بن مسعود ثم ثنى سعد بن عبيد ويقال‏:‏ سليط بن قيس وتكلم المثنى بن حارثة فقال‏:‏ أيها الناس لا يعظمن عليكم هذا الوجه فإنا قد تبحبحنا ريف فارس وغلبناهم على خير السواد وشاطرناهم ونلنا منهم ولها إن شاء الله ما بعدها‏.‏

فلما اجتمع البعث قيل لعمر‏:‏ أمر عليهم رجلأ من السابقين من المهاجرين والأنصار فقال‏:‏ لا واللهّ لا أفعل إن اللّه إنما رفعكم بسبقكم وسرعتكم إلى العدو فإذا كرهتم اللقاء فأولى بالرياسة منكم من أجاب لا أؤمر عليهم إلا أولهم إنتدابًا‏.‏

وانتخب عمر ألف رجل ثم دعا أبا عبيد فأمره على الخيل ثم قال له‏:‏ اسمع من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأشركهم في الأمر فإن الحرب لا يصلحها إلا الرجل الذي يعرف الفرصة والكف فقال أبو عبيد‏:‏ أنا لها فكان أول بعث بعثه عمر بعث أبي عبيد ثم بعث يعلى بن أمية إلى اليمن وأمره بإجلاء أهل نجران لوصية رسول صلى الله عليه وسلم في مرضه بذلك ولوصية أبي بكر رضي اللّه عنه بذلك في مرضه‏.‏

ثم ندب أهل الردة فأقبلوا سراعًا من كل أوب فرمى بهم الشام والعراف وكتب إلى أهل اليرموك بأن عليكم أبا عبيد وكان أول فتح أتاه اليرموك‏.‏

خبر النمارق فخرج أبو عبيد ومعه سعد بن عبيد وسليط بن قيس والمثنى بن حارثة فقدم أبو عبيد والرأس شيري والعدل بين الناس بوران فإنها كانت تصلح الأمور وهو الوالي حينئذ فقدم المثنى الحيرة من المدينة في عشر ولحقه أبو عبيد بعد شهر وكان أهل فارس قد جعلوا الحرب على رستم وتوجوه فبعث إلى دهاقين السودان أن يثوروا بالمسلمين وبعث جندًا لمصادمة المثنى‏.‏

وخرج أبو عبيد فجعل المثنى على الخيل وعلى ميمنته والق بن جيدارة وعلى ميسرته عمرو بن الهيثم واقتتلوا فهزم اللّه أهل فارس وأسرجابان وكان الأمير من قبل رستم فخدع الذي أسره بشيء فخلى عنه فأخذه المسلمون فأتوا به أبا عبيد وأخبروه أنه الملك وأشاروا بقتله فقال‏:‏ إني أخاف اللّه أن أقتله وقد آمنه مسلم‏.‏

السَّقاطية بكَسْكر ولما انهزمت فارس أخذوا نحو كسكر ليلحقوا نرسي وهو ابن خالة كسرى وكانت كسكر قطيعة له نادى أبو عبيد بالرحيل وقال للمجردة‏:‏ اتبعوهم حتى تدخلوهم عسكر نرسي أو تبيدوهم فيما بين النمارق إلى بارق إلى دُرْتا‏.‏

ومضى أبو عبيد حتى نزل على نرسي بكسكر وعلى مجنبة نرسي إبنا خال كسرى بندويه وتيرويه وقد أتى الخبر بوران ورستم بهزيمة جابان فعاجل أبو عبيد فالتقوا أسفل كسكر فاقتتلوا قتالأ شديدًا وهزم الله فارس وهرب نرسي وغلب على عسكره وأخرب أبو عبيد ما كان حول معسكرهم من كسكر وجمع الغنائم وأخذ خزائن نرسي‏.‏

وأقام أبو عبيد وسرح المثنى إلى باروسما وبعث والقًا إلى الزوابي وعاصمًا إلى نهر جوبرة فهزموا من كان تجمع وأخربوا وسبوا وكان مما أخرب المثنى وسبى أهل زندورد‏.‏

وجاءوا إلى أبي عبيد بطعام أكرموه به فقال‏:‏ أكرمتم الجند كلهم بمثل هذا قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ بئس المرء أبو عبيد إن صحب قومًا فاستأثر عليهم لا والله لا نأكل إلا مثل ما يأكل أوساطهم‏.‏

 وقعة القرقس

ثم جاء بهمن جاذويه ومعه راية كسرى والفيل فقال لأبي عبيد‏:‏ إما أن تعبروا إِلينّا وإما أن تدعونا نعبر إليكم فقال الناس‏:‏ لا تعبر أبا عبيد فقال‏:‏ لا يكونوا أجرأ على الموت منا بل نعبر فعبروا إليهم واقتتلوا وأبو عبيد فيما بين الستة والعشرة وكانت الخيول إذا نظرت إلى الفيلة عليها الحلية والخيل عليها التجافيف لم تقدم خيولهم وإذا حملوا على المسلمين فرقوهم ورموهم بالنشاب‏.‏

فترجل أبو عبيد والناس ثم قال للناس‏:‏ أقصدوا الفيلة وواثب هو الفيل الأبيض فتعلق ببطانه فقطعه وفعل القوم مثل ذلك فما تركوا فيلًا إلا حطوا رحله وقتلوا أصحابه وقتل من المشركين ستة آلاف في المعركة ولم ينتظروا غير الهزيمة فأهوى أبو عبيد فنفخ مِشْفَر الفيل بالسيف فخبطه الفيل‏.‏

وكان أبو عبيد لما رأى الفيل قال‏:‏ ما هذا ولم يكن رآه قط فقالوا‏:‏ هذا الفيل فارتجز وقال‏:‏ يا لك من ذي أربع ما أكبرك يا لك من يوم وغى ما أمكنك إني لغال بالحسام مشفرك وهالك وفي الهلاك لي درك ثم ضربه على خرطومه فقطعه ووقع عليه الفيل فقتله‏.‏

فلما بصر الناس بأبي عبيد تحت الفيل ضعفت نفوسهم ثم حاربوا الفيل حتى تنحى عنه فاجتروه إلى المسلمين وجال المسلمون فركبهم أهل فارس وأخذ اللواء سبعة من المسلمين كلهم يقتل فبادر عبد الله بن مرثد الثقني الجسر فقطعه وانتهى الناس إليه والسيوف تأخذهم فتهافتوا في الفرات فأصابوا يومئذ من المسلمين أربعة آلاف من بين غريق وقتيل وهرب ألفان وبقي ثلاثة آلاف وحمى المثنى الناس وعاصم والكلج الضبي ومذعور حتى عقدوا الجسر وعبروهم ثم عبروا في آثارهم وخرج الحماة كلهم‏.‏

فبينما أهل فارس يحاولون العبور أتاهم الخبر أن الناس بالمدائن قد ثاروا برستم ونقضوا الذي بينهم وبينه وبلغ عمر الخبر فاشتد عليه وقال‏:‏ لو أن أبا عبيد انحاز إليّ لكنت له فئة‏.‏

وقال للمنهزمين‏:‏ أنا فئتكم‏.‏

وكان بين وقعة اليرموك والجسر أربعون ليلة فكانت اليرموك في جمادى الآخرة والجسر في شعبان‏.‏

 قصة البُوَيْب

ثم أن المثنى خرج في آثار القوم فأسر منهم وقتل وبعث إلى من يليه فاجتمع إليه جمع عظيم فبلغ ذلك رستم والفَيْرُزان فبعثا إليه مهران الهمذاني وبلغ المثنى الخبر فجمع الناس بالبويب فعبر مهران فنزل على شاطىء الفرات فنادى المثنى في الناس‏:‏ انهدوا لعدوكم قم قال‏:‏ إني مكبر ثلاثًا فتهيأوا ثم احملوا مع الرابعة‏.‏

فلما كبر أول تكبيرة أعجلهم فارس فخالطوهم وركدت الحرب وهزمتَ فارس وهلك مهران وتمكن المسلمون من الغارة على السواد فيما بينهم وبين دجلة فمخروها لا يخافون كيدًا وانتقضت مسالح العجم واعتصموا بساباط وسرهم أن يتركوا ما وراء دجلة‏.‏

وكانت وقعة البويب في رمضان سنة ثلاث عشرة وكانت تحزر عظام القتلى بمائة ألف‏.‏

 ذكر قصة الخنافس

ولما غزا المثنى السواد دل على سوق تجتمع فيه ربيعة وقضاعة والناس يقال له الخنافس فأغار عليها يوم سوقها‏.‏

 ذكر قصة بغداد

جاء رجل من أهل الحيرة إلى المثنى فقال له‏:‏ هل أدلك على قرية يأتيها تجار مدائن كسرى والسواد ومعهم الأموال وهذه أيام سوقهم فإن أغرت عليهم وهم لا يشعرون أصبت فيها مالًا يكون غنى للمسلمين يقوون به على عدوهم دهرهم‏.‏

قال‏:‏ وكم بينها وبين مدائن كسرى قال‏:‏ بعض يوم‏.‏

فأخذ الأدلاء وصبحهم في أسواقهم فوضع فيهم السيف فقتل وأخذ ثم رجع إلى نهر السليحين بالأنبار وما زال هو وأصحابه يغيرون على الأطراف‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ كانت ببغداد في أيام مملكة العجم قرية يجتمع رأس كل سنة التجار ويقوم بها للفرس سوق عظيمة فلما توجه المسلمون إلى العراق وفتح أول السواد ذكر للمثنى بن حارثة الشيباني أمر سوق بغداد‏.‏

فأخبرنا محمد بن أحمد بن رزق البزار أخبرنا محمد بن الحسن الصواف حدَثنا الحسن بن علي القطان أخبرنا إسماعيل بن عيسى العطار أخبرنا إسحاق بن بشر أبو حذيفة قال‏:‏ قال ابن إسحاق‏:‏ حدَّثني عبد الله أن أهل الحيرة قالوا للمثنى‏:‏ ألا ندلك على قرية يأتيها تجار مدائن كسرى وتجار السواد وتجتمع بها كل سنة من أموال الناس مثل خراج العراق وهذه أيام سوقهم التي يجتمعون فيها فإن أنت قدرت على أن تغير عليهم وهم لا يشعرون أصبت بها مالأ يكون منه عز للمسلمين وقوة على عدوهم وبينها وبين مدائن كسرى عامة يوم فقال لهم‏:‏ وكيف لي بها‏.‏

فقالوا له‏:‏ إن أردتها فخذ طريق البر حتى تنتهي إلى الأنبار ثم تأخذ رؤوس الدهاقين فيبعثون معك الأدلاء فتسير سواد ليلة من الأنبار حتى تأتيهم ضحى‏.‏

قال‏:‏ فخرج من الغد ومعه أدلاء أهل الحيرة حتى دخل الأنبار فنزل بصاحبها فتحصن منه فأرسل إليه‏:‏ انزل فإنك آمن على دينك وقريتك وترجع سالمأ إلى حصنك فتوثق عليه ثم نزل فقال‏:‏ إني أريد أن تبعث معي دليلًا يدلني على بغداد فإني أريد أن أعبر منها إلى المدائن قال‏:‏ أنا أجيء معك قال المثنى لا أريد أن تجيء معي ولكن ابعث معي من يعرف الطريق ففعل وأمر لهم بعلف وطعام وزاد وبعث معهم دليلأ فأقبل حتى بلغ المنصف قال له المثنى‏:‏ كم بيننا وبين هذه القرية قال‏:‏ أربع فراسخ أو خمسة وقد بقي عليك ليل فقال لأصحابه‏:‏ انزلوا واقصموا واطعموا وابعثوا الطلائع فلا تلقون أحدًا إلا حبستموه ثم سار بهم فصبحهم في أسواقهم فوضع فيهم السيف فقتل وأخذ الأموال وقال لأصحابه‏:‏ لا تأخذوا إلا الذهب والفضة ومن المتاع ما يقدر الرجل منكم على حمله على دابته وهرب الناس وتركوا أمتعتهم وملأ المسلمون أيديهم من الصفراء والبيضاء ثم رجع حتى نزل نهر السليحين فقال للمسلمين‏:‏ احمدوا اللّه الذي سلمكم وأغنمكم انزلوا فاعلفوا خيلكم من هذا القصب وعلقوا عليها وأصيبوا من أزوادكم ثم سار حتى انتهى إلى الأنبار‏.‏

وهذا المثنى هو أول من حارب الفرس في أيام أبي بكر رضي الله عنه‏.‏

 ذكر ما هيج أمر القادسية

اجتمع أهل فارس إلى رستم والفيرزان فقالوا‏:‏ قد وهنتما أهل فارس وأطمعتما فيهم عدوهم وما بعد بغداد وساباط وتكريت إلا المدائن واللّه لتجتمعان أو لنبدأن بكما قبل أن يشمت بنا شامت‏.‏

فقال رستم والفيرزان لبوران بنت كسرى‏:‏ اكتبي لنا نساء كسرى وسراريه ونساء آل كسرى وسراريهم‏.‏

ففعلت فأرسلوا في طلبهن فاجتمعن فسألوهن عن ذكر من أبناء كسرى فلم يوجد عندهن فقال بعضهن‏:‏ لم يبق إلا غلام يدعى يَزْدَجِرْد من ولد شَهْريار بن كسرى وأمه من أهل بادوريا‏.‏

وكانت في أيام شيري حين قتل الذكور دلَته في زَبيل إلى أخواله فجاءوا به فملكوه وهو ابن إحدى وعشرين سنة واطمأنت فارس واستوثقت فكتب بذلك إلى عمر رضي اللهّ عنه فكتب عمر إلى عمال العرب وذلك في ذي الحجة سنة ثلاث عشرة مخرجه إلى الحج أن لا تدعوا أحداَ له سلاح أو فرس أو نجدة أو رأي إلا انتخبتموه ثم وجهتم إلي والعجل العجل‏.‏

وحج بالناس عامئذ عبد الرحمن بن عوف وكان عامل عمر في هذه السنة على مكة عتاب بن أسيد وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص وعلى اليمن يعلى بن وعلى عمان واليمامة حذيفة بن مِحْصَن وعلى البحرين العلاء بن الحضرمي وعلى الشام أبو عبيدة وعلى فرج الكوفة وما فتح من أرضها المثنى بن حارثة وكان على القضاء علي بن أبي طالب‏.‏